
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
في ظل الأزمات التي تعصف بالإنسان، يبقى الاستهداء بالقرآن الكريم ملاذًا آمنًا ونورًا يهدي الحائرين. فالقرآن ليس مجرد كتاب يُتلى، بل هو هداية شاملة ترشد الإنسان إلى السكينة والثبات وقت المحن. يجد المؤمن في آياته توجيهات تعزز الصبر، وتغرس الأمل، وتذكّره بأن الفرج يأتي بعد الشدة، وأن الله لا يخذل من توكل عليه. في كل أزمة، يفتح القرآن أبواب الطمأنينة، ويعيد ترتيب الأولويات، ويوجه القلب إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة؛ فمن واجب الإنسان أن يعيش في أوقات الفتن والمحن والأزمات تحت ظلال الآيات، فتعالوا نعيش في ظلِّ آيةٍ من آياته.
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
يا أيها الذين آمنوا: ينادي الله تعالى عباده المؤمنين بأحب الألقاب إليهم وأحبها إليه، ناداهم الله تعالى بهويتهم العظمى، بهوية الإيمان لا هويات العصبية والقبلية والحزبية. لم ينادهم الله تعالى بهويات ورايات تمزقهم وتشتتهم، لم ينادهم بهوية سايكس بيكو، بل بهوية العقيدة الراسخة التي تربط بين العباد وبين رب السماوات والأرض. وفي هذا إشارةٌ إلى أن فلاح المؤمنين في اجتماعهم ونبذ الخلافات والرايات.
ثم أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالصبر. والصبر هو حبس النفس على طاعة الله، وعن معصية الله، وعن الجزع على أقدار الله وأقضيته.
أمرهم الله بالصبر: اصبروا على ما أصابكم، اصبروا في وقت الفتن والمحن، اصبروا على ضيق العيش، اصبروا وإن مات الأبناء وإن هدمت البيوت وجاع الأبناء، اصبروا فإن الله تعالى قال: (إنما يُوَفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب).
وقد قال ابن القيم رحمه الله: أين أنت والطريقُ، طريقٌ تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرّ أيوب، وزاد على المقدار بكاءُ داود، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد ﷺ..
قال تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )
أحسبتم أيها الناس أن يتركنا الله على قولنا بألسنتنا أننا آمنا؟ لا والله، ليست هذه سنة الله، بل سنة الله الابتلاء والتمحيص ليخرج معادن الناس (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)
سُحِبَ على البطحاء بلال الحبشي، وسُجِنَ وجاع وعطش خالد بن العاص، وأُحميت الحجارة على ظهر خباب بن الأرت، وطُعنت سمية الخياط، أفلا نُبتلى ونُمتحن نحن؟!
وقد قال صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن البلاء: “أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثَلُ، فيُبتلى الرَّجلُ على حسَبِ دينِه، فإن كانَ في دينهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ على حسَبِ دينِه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي على الأرضِ ما عليهِ خطيئةٌ.”
وقد قال الله تعالى قبل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ):
قال قبلها: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَاد)
أي لا يغرنك قوتهم وتجارتهم وأموالهم ودباباتهم وطائراتهم وعتادهم وعدتهم، فإن هذا كله متاع قليل وفترة وتمضي. والعاقبة للمؤمنين والنصر للإسلام؛ فقد قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.
نزلت هذه الآية في أوائل المرحلة المدنية للمسلمين، والمسلمون قلة ضعاف لم تكن لهم قوة في الأرض، ثم ما لبثت السنوات إلا وقد فتح الله لنبيه ولأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، ومكن للمؤمنين ما وعدهم. ولا يزال وعد الله قائمًا لمن أقام الدين ونصر الشريعة والإسلام بأن يجعل لهم العاقبة وحسن الختام.
وإن الإيمان بوعد الله وبنصره واجب حتمي على الإنسان، ويحرم عليه اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ).
وقد أمر الله تعالى في الآية الكريمة بالرباط: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
والرباط هو الإقامة في الثغور التي يُخشى على أهلها من أعداء الإسلام.
والرباط هو من أفضل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، فقد قال رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “رِبَاطُ يَومٍ في سَبيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا.” (صحيح البخاري).
رباط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من هذه الدنيا، خيرٌ من مالها وذهبها وقصورها ونسائها وأولادها، خيرٌ مما حملت هذه الأرض. وخير الرباط عسقلان كما قال صلى الله عليه وسلم؛ يعني أنه لا رباط يفوق رباط أهل هذه الأرض، ولا صبر يعدل صبركم، ولا دفع يعدل دفعكم ولا تضحيات تعظم تضحياتكم .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: “موقفُ ساعةٍ في سبيلِ اللهِ خيرٌ من قيامِ ليلةِ القدرِ عندَ الحَجرِ الأسوَدِ.” والحديث صحيح.
موقف ساعة في سبيل الله: ساعة إعداد، ساعة خوف، ساعة قصف، ساعة جوع، ساعة عطش، ساعة من الرباط في هذه الأرض، خيرٌ من قيام ليلة القدر بعزها وشرفها وقدرها ومكانتها وبركتها. وليلة القدر خيرٌ من ألف شهر. وعند الحجر الأسود، والحسنة عند الكعبة بمائة ألف حسنة، وليلة القدر عند الكعبة بمائة ألف ليلة قدر. لرباط ساعة في سبيل الله خيرٌ من هذا الأجر الذي ذكرناه.
فالصبر الصبر، والرباط الرباط، وتجديدُ النيّاتِ. طعامك رباط، ونومك رباط، وعملك رباط، أنت مستهدف، أنت على ثغر.
وفي نهاية الآية أوصى الله تعالى عباده المؤمنين بتقوى الله تعالى، فهي السبيل إلى النجاة في الدارين الدنيا والآخرة، ولا فلاح ولا نصر ولا توفيق إلا بتقوى الله تعالى.
تصنيفات : قضايا و مقالات