نساء فلسطين، ركائز الثبات
مايو 30, 2025
للمشاركة :

في غزة التي تحترق منذ أكثر من ستمائة يوم، وتعاني المجاعة بعد شهرين من إغلاق المعابر الذي ما زال مستمرًا إلى الآن، لم تقف نساء غزة مكتوفات الأيدي حزنًا على الفقد الذي أصاب كل بيت، أو كدرًا على جوع أبنائهن، أو خوفًا مما قد يقع والطائرات الحربية والمدفعيات لا تتوقف لحظة واحدة. لم يتراجعن حزنًا ولا كدرًا ولا خوفًا، بل وقفت كلّ منهن على ثغرٍ تقوم بحقه، تؤدي وظيفة تلبي بها حاجة جائع أو مريض أو جريح.

منهن نموذج يُتوقف عنده طويلًا، الدكتورة آلاء النجار، طبيبة أطفال في مجمع ناصر الطبي في خانيونس. تقف على قدميها منذ الفجر، كعادتها كل يوم في المشفى، تُسعف وتُنقذ، وتضمّد جراح أطفال كثر، بعد أن استودعت الله أبناءها العشرة مع والدهم في منزلهم. إلا أن هذا اليوم انتهى على الطبيبة المعطاءة ببلاءٍ غير متوقع، فعندما دخل أبناؤها إلى المشفى أشلاء متفحمة، سبقها تسعة منهم إلى الجنة، أكبرهم يحيى ابن الاثنتي عشرة سنة، وأصغرهم رضيعة لم تكمل عامها الأول بعد. ولم يبقَ من أبنائها إلا آدم، جريحًا مصابًا هو ووالده في العناية المركزة.

كل طفل من أطفالها الشهداء يحمل قطعة من روحها، ولُمسات من حنانها، وشيئًا من ملامح وجهها. ودّعتهم إلى الجنان في ليلة ثقيلة، ولم تكن هذه الليلة الأولى التي تُبتلى فيها نساء فلسطين، فمنذ قرن من الجراح، والأرض تُنجب نساءً من طراز نادر، يحملن في أرحامهن أوطانًا، ويُرضعن عزة، ويربين رجالًا أشداء، ويودّعنهم على أعتاب الشهادة كما تودّع الزهرة الندى، بخفة ورضا.

وليست هذه قصة وحيدة، بل واحدة من قصص متكررة في البيت الفلسطيني. ونذكر على سبيل المثال قصة أم من أمهات جنين المناضلة، الأسيرة المحررة أم العبد أبو الهيجا. أسيرة محررة عانت مرارة الأسر والفقد، وصبرت على فراق الأحبة بين أسير وشهيد. فهي زوجة شهيد مساندة له، وأم الشهيد حمزة أبو الهيجا، وأم الأسرى عبد السلام وعاصم وبنان. رحلت إلى الآخرة صابرة محتسبة، تاركة أثرًا خالدًا في الذاكرة الفلسطينية، ونموذجًا من نماذج الصبر والصمود والإباء. رحلت وحُرم أبناؤها خلف القضبان من لحظة الوداع، رحلت وقلبها معلق بأبنائها الذين يترقبون اللقاء، وما زالوا يترقبون لقاءً دائمًا لا ينقطع، يجمعهم بأخيهم الشهيد وأمهم الصابرة، ويعيد لم شملِهم حيث لا ألم ولا حزن ولا فراق.

اجتمعت على أهل هذه الأرض كل أنواع البلاء، وأشد أشكال الاختبار التي جمعها رب العالمين في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]. اجتمع الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، فالبشرى لمن صبر واسترجع، وأيقن أنه وماله وولده وداره لله، وأن لله ما أعطى ولله ما أخذ. أيقن وقال: “إنا لله”، وآمن أن البلاء على شدته زائل، وأن الفقد المر مؤقت، وأن الخوف والجوع ينقضيان، والموعد جنة تنسي الشقاء، يوم “يُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ”.

تصنيفات :