
في زمن تتكاثر فيه التحديات وتُشنُّ فيه الحملات على الهوية والثوابت، يَبرز المعلم كأحد أعمدة الثبات والاستقرار في المجتمع؛ فدوره يتجاوز التعليم الأكاديمي إلى بناء الوعي، وترسيخ القيم، وتحصين الأجيال ضد محاولات الطمس والانحراف.
إن رسالة المعلم، خصوصًا في البيئات المستهدفة كفلسطين وسائر بلاد الأمة، هي رسالة رباطٍ وصمود لا تقلّ قدسية عن أي جبهة من جبهات الدفاع. فالثبات في ميدان التعليم يعني الإصرار على غرس المعاني الكبرى: الانتماء، والحرية، والكرامة، ومركزية العقيدة، في نفوس الطلبة.
ولعل أخطر ما يستهدفه أعداء الأمة هو تفريغ العقول من هويتها، وإفراغ النفوس من عزيمتها، وهنا تتجلى أهمية المعلم الذي يقف حائط الصد أمام موجات التغريب والتزييف؛ فهو من يربط الطالب بتاريخه، ويغذّيه بالقيم الأصيلة، ويفتح أمامه أبواب الفهم السليم لدينه وقضاياه.
إن الثبات الذي يُنتظر من المعلم ليس موقفًا لحظيًّا، بل مسار متكامل من الانضباط، والالتزام، والصبر على أداء الرسالة. فكم من معلمٍ يُدرّس تحت ضغط الاحتلال، أو الفقر، أو ضيق الإمكانيات، لكنه لا يفرّط في رسالته، بل يعلّم بثقة، ويؤدّي أمانته بوعي، ويحتسب كل جهدٍ في سبيل الله.
وتدلنا نصوص الوحي على مكانة من يحمل العلم ويعلّمه، قال تعالى: “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات” [المجادلة: ١١]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير” [رواه الترمذي]. وهذه النصوص تضع المعلم في موقع الصدارة في البناء الحضاري.
وفي السياق الفلسطيني، يظهر المعلم كثائر بالكلمة، ومجاهد بالقلم. هو الذي يُبقي الجيل متيقظًا لما يُحاك لقضيته، ويعلّمه أن النكسة لا تعني الهزيمة، وأن الحرية حق، وأن للقدس مكانة لا تُنازَع فيها.
بل إن المعلّم الصادق يُسهم في تربية عقول نقدية، لا تنساق خلف الروايات المُشوّهة، ويغرس في طلابه حب البحث والتمحيص، في وقتٍ تزداد فيه حملات التضليل وتشويه الحقائق.
وهكذا، فإن الثبات الذي يقدّمه المعلم يتجاوز شخصه، ليكون لبنة في صرح الأمة، وسهمًا في معركة الوعي. وهو حين يزرع قيم الثبات في تلاميذه، يُعدّهم ليكونوا هم أنفسهم معلمين في المستقبل، يحملون الشعلة، ويواصلون السير على درب البناء والصمود.
من هنا، لا بد من دعم المعلم، وتقدير دوره، وتوفير البيئة التي تمكّنه من أداء رسالته؛ فكل أمة تنهض بعلمائها ومعلّميها، وكل حضارة تبدأ من مدرسة، وكل ثورة وعي تبدأ بكلمة صادقة في فصلٍ متواضع.
تصنيفات : قضايا و مقالات