
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وعباده المصطفين، وبعد:
منذ أن بزغ فجر الإسلام ومنَّ الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزز فيهم الإيمان والأمل والثقة المطلقة بأن الله مظهر دينه ومعز أوليائه وناصر جنده.
ومنذ أن لجأ المسلمون المستضعفون إلى دار الأرقم سرًّا يتلون كتاب الله ويتدارسونه ويخفون إسلامهم عمن حولهم من الناس، والنبي يبني فيهم الثقة والوعد بخلاصهم من الظلم والاضطهاد والعبودية، إعدادًا لهم لتأسيس دولة الإسلام ببنيان قوي متين مرصوص.
وقد واجه المؤمنون أشد وأقسى ألوان العذاب في مكة من قبل قريش ليردوهم عن دينهم إن استطاعوا، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويثبتهم على رسالة الحق، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]. وقد ناشد الصحابي الخباب بن الأرت رسول الله بقوله: “يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟” فيقول عليه الصلاة والسلام: “والله ليبلغن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.
وبذلك يؤسس القرآن الكريم والسنة الشريفة قوة كبيرة في نفوس المؤمنين، تشرح صدورهم، وتداوي جراحهم، وتحثهم على العمل الدؤوب، وتدفع عنهم الخور والكسل والقنوط.
وظل المؤمنون على هذا الحال سنوات عديدة حتى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المستضعفين منهم بالهجرة إلى الحبشة، يلجؤون إلى ملكها وينشرون دعوة الله هناك. ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة لوضع اللبنة الأولى لبناء الدولة الإسلامية العتيدة، بعد أن بناها ورسخ مبادئها في نفوس أصحابه في ظل الثقة بالله والسكينة والطمأنينة، وهو يقول لصاحبه في الغار: “لا تحزن إن الله معنا”. فلم ييأس دعاة الإسلام في تلك الحقبة من نصر الله لهم وظهور الإسلام على الدين كله. وأنزل الله: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15].
ولنا في قصص الأنبياء السابقين عبرة وعظة. فنبي الله يعقوب ظل يحذوه الأمل بلقاء يوسف، فيقول لأبنائه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. واطمأن على هذا الحال حتى وجد ريح يوسف من قميصه فارتد بصيرًا، ورفع على العرش في مصر. وكذلك موسى عليه السلام، حين أدركه فرعون بجنوده من خلفه والبحر المائج من أمامه، وقف يملؤه الأمل مستنكرًا قول أصحابه: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61-62].
وهكذا هي سيرة الأنبياء والصالحين، لا يعرفون لليأس طريقًا ولا للقنوط محلًّا. يلازمهم الأمل والإيمان، يبعث إيمانهم في نفوسهم أملًا بنصر الله وعلو كلمته مهما اشتدت بهم الخطوب وتلاطمت بهم الأمواج. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراش موته يوصي بتسيير بعث أسامة، مرسخًا أمل الفتوحات ونشر الدعوة في أرجاء الأرض رغم اقتراب رحيله عليه الصلاة والسلام. ويبشر رسول الله بطائفة على طريقه تحمل لواءه وتسير على خطاه في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، بقوله: “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خذلهم إلا ما أصابهم من لأواء، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. وإنا لنراهم أمام أعيننا وبين جنبينا يقاتلون في سبيل الله، على قلة عددهم وعدتهم، أعتى قوة في العالم، مستبشرين بنصر الله، تعمر قلوبهم آيات النصر والفتح المبين، منتظرين وعد الله لهم: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27].
تصنيفات : قضايا و مقالات