
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
إن العمل بلا خطة يعد إهدارًا للوقت والجهد، وقد يكون طريقا نهايته الفشل. فالتخطيط الاستراتيجي هو العمود الفقري لإنجاح أي مشروع؛ لأنه يمثل خارطة الطريق التي ترشد إلى النجاح، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]. فالجهاد يحتاج إلى إعداد، وكذلك الهجرة أو أي أمر يحتاج إلى إعداد. ولذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثناء هجرته وضع هدفًا، ووضع خططًا للوصول إلى هذا الهدف، وسار بطريقة ممنهجة ومرتبة وواضحة، مما يعين على صياغة خطط أفضل. وهذه الخطط الممنهجة سهلت عملية السير والتقدم نحو الهدف بخطى ثابتة. وهذا إن دل فإنما يدل على قدرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على التخطيط الدقيق والمحكم للأمور، حتى في أصعب الظروف واللحظات. ولذلك، فإن الهجرة النبوية ليست حدثًا عابرًا، بل هي حدث متجدد العبر والدروس في كل زمان ومكان.
ولم تكن تبعات الهجرة ونتائجها على جزيرة العرب فقط، بل فتحت الباب أمام خروج الإسلام إلى العالم أجمع. فهي حدث غيَّر مجرى التاريخ، بل هي الحد الفاصل بين العصور المظلمة والعصر الذهبي.
وسنتناول من هذه المنهجيات استراتيجيات التخطيط، ونذكر من هذه الاستراتيجيات:
أولًا: التوكل على الله واستشعار معيته
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]. لقد بلغ الاعتماد على الله تعالى في الهجرة النبوية مبلغه، كيف لا وصاحب الذكرى هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خير من يتوكل على الله تعالى، رغم الظلم وتزاحم الشدائد والمصائب والاضطهاد عليه وعلى صحبه من العشيرة والأقربين. ولكنه صلى الله عليه وسلم كان على يقين بأن الله سينصره وينجز له ما وعده، فصبر واحتمل وانتظر الأمر الإلهي بالإذن بالهجرة إلى المدينة المنورة، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
ولم يغفل النبي صلى الله عليه وسلم مع التوكل على الله تعالى عن الأخذ بالأسباب التي هي كفة الميزان الثانية لحسن التوكل والاعتماد على الله، ويظهر ذلك فيما يلي:
- الإسرار بخبر الهجرة: حيث حصر أمر الهجرة بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنه دون علم أحد.
- خروج النبي من بيته محسنًا التوكل على الله تعالى: يحاصر المشركون بيت النبي صلى الله عليه وسلم بانتظار خروجه ليقتلوه، فلم يخرج، فيدخلون عليه وإذ بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي في فراش النبي، فيدركون فشلهم. وهذا من حسن التوكل على الله تعالى، إذ لم يُصَب علي رضي الله عنه بأذى لأن الله يرعى هذه الرحلة المباركة.
- الطمأنينة والسير واثقًا بخطى ثابتة: سار النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه متجهًا إلى الغار مستشعرًا معية الله تعالى بعد الاعتماد عليه والأخذ بالأسباب، فلم تشعر به قريش وأعوانها على الرغم من المراقبة الشديدة، وذلك بفضل الله تعالى وحفظه ورعايته له.
- معية الله تعالى في الغار: تبحث قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصلوا إلى الغار، فيقول أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: “لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا”، فيرد عليه صلى الله عليه وسلم معتمدًا على الله تعالى محسنًا الظن به قائلًا: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما”. ويتجلى هنا قول الله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]. فالله تعالى صرف بصائرهم وأبصارهم عن الغار، ثم أكمل النبي صلى الله عليه وسلم رحلته.
ثانيًا: حسن التخطيط والإعداد
لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في حسن التخطيط والإعداد، وذلك من خلال:
- اختيار الصاحب المناسب: ومن خير من أبي بكر رضي الله عنه، ذلك الرجل الرزين الهادئ الواثق الوفي الكتوم.
- كتم سر الهجرة: يظهر ذلك بكتمان أمر الهجرة بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنه في غير حضور أهله، حيث قال له قبل أن يخبره: “أخرج من عندك”.
- صرف شكوك قريش: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تمويه قريش بصرف شكوكها عن زيارته لأبي بكر في بيته، وجعلهم يألفون زيارته اليومية له، فلم يكن يخطئه يومًا في زيارته بعد كسر الحر، ومن ثم يغير التوقيت في اللحظة المناسبة، وفي ليلة الهجرة جعل علي بن أبي طالب ينام في فراشه.
- توقيت إعداد الرحلة: كلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه بشراء الراحلتين وإعدادهما قبل وقت طويل من الهجرة حتى لا تفطن إلى ذلك قريش وأعوانها.
- عدم الإفصاح عن موعد الرحلة بانتظار الأمر الإلهي: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له بالهجرة، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حُبس أو فُتن، وعلي بن أبي طالب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق رضي الله عنهما. وكان أبو بكر كثيرًا ما يطلب الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبًا”، فيطمع أبو بكر أن يكون هو (السيرة النبوية لابن هشام).
- التخطيط السليم والحكيم في اتخاذ جميع الأسباب والتدابير: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التخطيط السليم الحكيم لنجاح الهجرة، وسد جميع الثغرات المحتملة التي قد تؤدي إلى الفشل، والوقوف على دقائق الأمور كما يلي:
- تأمين الطريق: حيث كلف عبد الله بن أريقط، الخبير بالطرقات، ليدلهم على السبل.
- تأمين الغذاء: كانت لهذه المهمة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فالرحلة طويلة وشاقة، ولا بد من توفير الزاد لتقوية الأجساد على المسير في دروب الصحراء وبين شعاب الجبال.
- تأمين المعلومات والأخبار: تولى هذه المهمة عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه، حيث كان ينقل أخبار العدو وتحركاته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
- تأمين مكان السير والاختباء: كان لهذه المهمة راعي الأغنام عامر بن فهيرة، حيث قام بإخفاء أثر مسير النبي صلى الله عليه وسلم بأغنامه ليضلل من يقصون الأثر.
- تأمين الحقوق ورد الأمانات: كان لهذه المهمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كلفه النبي صلى الله عليه وسلم أن ينام في فراشه ليلة الهجرة، ومن ثم يرد الأمانات إلى أهلها.
ثالثًا: التضحية والفداء
قد يحتاج الإنسان لإنجاز مهامه وتحقيق أهدافه إلى خوض المعارك والتضحيات، وليس هناك شيء أثمن من الدين لنضحي من أجله. هذا ما بينته لنا الهجرة النبوية، ويتمثل ذلك فيما يلي:
- تضحية الصديق رضي الله عنه: بماله ونفسه لإعلاء كلمة الله تعالى، والحفاظ على نبي الأمة.
- تضحية آل الصديق رضي الله عنهم: حيث تعرضوا للتعذيب على يد كفار قريش بهدف انتزاع معلومات منهم تدلهم على نبي الله وصاحبه.
- مبيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فراش النبي: رغم علمه بأنه ربما يكون شهيدًا على يد المحاصرين.
- تضحية أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: في تحمل عناء حمل الزاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم رغم مشقة الطريق ووعورتها وصعود الجبل يوميًا، الذي يعجز الكثير من الرجال عن صعوده.
- تضحية عامر بن فهيرة: في مهمته لمحو آثار الأقدام بواسطة أغنامه، والذي لو انكشف أمره لتم القضاء عليه ومصادرة أغنامه.
وكل هذا تكلل بعناية الرحمن ورعايته.
الهجرة بين الأمس واليوم
أولًا: لقد ضاق بالأمس صدر كفار قريش بصمود النبي صلى الله عليه وسلم وثباته على الدعوة التي بعث بها، وإصراره على نشر دعوته. فتيقنت قريش أنه لو استمر بين أظهرهم لأقام مجتمعًا صالحًا نظيفًا بعيدًا عن ظلم القبلية الجاهلية، ينتشر فيه العدل وتحفظ فيه الحقوق، ويتساوى فيه الجميع أمام القضاء، لا يستعبد غنيهم فقيرهم، ولا يأكل فيه قويهم ضعيفهم. فهذه المبادئ تقضي على تجارتهم وكبريائهم ومصالحهم التي يجنونها من فسادهم وإفسادهم. من أجل ذلك، اجتمع صناديد قريش وزعماؤها من الفجار والمفسدين في دار الندوة لحبس النبي صلى الله عليه وسلم، أو نفيه من البلاد، ولكن هذا الأمر لم يرق لبعض صناديد قريش، فاقترحوا قتله.
وما أشبه اليوم بالبارحة، حيث يتطابق كلامهم ومؤامراتهم وأفعالهم وإن اختلف الزمان. فكما اجتمع كفار قريش في دار الندوة، يجتمع اليوم صناديد الكفر والفساد ومن يتحكم برقاب العباد في مبنى مجالس النواب والوزراء ومجلس الشيوخ الأمريكي ومجلس الأمن والجامعة العربية وهيئة الأمم لمناقشة كيفية مواجهة دعوة الإسلام وإلصاق تهمة الإرهاب بهم لتوفير مبرر لمحاربتهم، وتضييع حقوق الفلسطينيين الذين هُجِّروا من ديارهم وسُلبت حقوقهم واغتصبت أراضيهم. فبنوا سجونًا لحبسهم وشرعوا قانونًا للإقامة الجبرية والنفي خارج البلاد. وهذا ما يمارسه المحتل الصهيوني ضد أبناء فلسطين، وخاصة سكان بيت المقدس، لتفريغ القدس من العرب وإتمام تهويدها. فقد هجّر الاحتلال الملايين من أبناء فلسطين خارج فلسطين وداخلها. وعندما لا يفي أمر الحبس والنفي والتهجير بالغرض، رغم ما يحمله من إجرام وسلب للحقوق، فليس هناك إلا الإعدام والقتل بدم بارد. وما أكثر حالات الإعدام بدم بارد اليوم على يد الإرهاب الصهيوني المحتل للفلسطينيين، فلا يمر يوم إلا وفيه حالات قتل بدم بارد بحجة الإرهاب، أو لأتفه الأسباب أو بلا سبب.
ثانيًا: كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أحسن التوكل على الله والاعتماد عليه آخذًا بالأسباب، وكان على يقين تام بأن نصر الله قادم وأن رسالة الله ستظهر على العالم أجمع، فصبر واحتمل وانتظر الأمر الإلهي بالفرج، فإن الفلسطينيين يؤمنون بالأمر نفسه، وأن الله ناصرهم لا محالة. فهم صابرون محتسبون واثقون بنصر الله كما وعد في كتابه. كما أنهم يؤمنون أن الصراع بين الحق والباطل صراع طويل وقديم، وهو سنة الله في خلقه، لكنهم يؤمنون أيضًا بعاقبته ونهايته، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
هذا والله ولي التوفيق
تصنيفات : قضايا و مقالات