عام جديد … ولتنظر نفس ما قدمت لغد، أ.إسلام بن نائل طالب
يوليو 1, 2025
للمشاركة :

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، ثم أما بعد:

مفهوم تزكية النفس:

تزكية النفس هي زيادة الخير ونماؤه فيها، وذلك يكون بالإكثار من فعل العبادات والطاعات والأعمال الصالحة، ومجانبة السيئات والشرور والآفات وتركها والبعد عنها في دار الغرور. فإذا تم للإنسان ذلك، أصبحت نفسه شريفة عفيفة زكية طاهرة، وأصبحت السعادة والطمأنينة وانشراح الصدر وهداة البال وصلاح الحال صفة وسجية لها. فهي النافعة في الدنيا والآخرة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ومن أراد لنفسه النجاة من المهلكات والموبقات المردية في النار مأوى الفجار، ومن أراد لنفسه الراحة والحبور والسرور بدخول جنة العزيز الغفور، فما عليه إلا أن يجلس مع نفسه ويجتمع معها اجتماعًا مغلقًا، اجتماعًا يوميًا وأسبوعيًا وشهريًا وسنويًا لمعالجة العيوب وتصحيح المسار، ويحاسبها ويراجعها ويعاتبها عتاب المحبين الصادقين المشتاقين لجنة رب العالمين، ويحاسبها كما يحاسب الشريك شريكه ليدرك النعيم المقيم.

وأذكر هنا الأثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فاروق الأمة الأواب رضي الله عنه، قال: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية”.

ومن حاسب نفسه استحيا من الله في حسابه، كما قال السري السقطي. وينظر الإنسان فما كان من أعماله صالحًا وعباداته رابحة فينميها ويزيدها ويراعيها، مثل الصلوات الخمس في جماعة، والاهتمام بأعظم كتاب بانتظام ومواظبة، الذي أطلق عليه كتاب السعادة الأبدية والفرحة السرمدية، كتاب الله تلاوة وتدبرًا وتعقلًا وتفهمًا وعملًا به. وتفقد والديك برًا بهما، وهل إذا رأيت يتيمًا تحسن إليه وترفق به وتمسح على رأسه؟ وهل إذا رأيت مهمومًا مدينًا مكروبًا تواسيه وتفرج عنه كربه وهمه؟ هل تذهب إلى أحب بقاع الأرض إلى الله وهي المساجد وتجلس فيها، أم إلى أبغض بقاع الأرض وهي الأسواق؟ وعلى هذا فَقِس.

فمن المحاسبة أن تعرف ما لك وما عليك، وإعطاء كل ذي حق حقه. فما لك أخي الكريم هو المباح والجائز والحلال الشرعي أن تفعله، وما عليك هو عبادة الله والتزام الطاعة واجتناب المعصية والحقوق التي عليك. وانظر ما عليك من الحقوق: حق الله تتفقده من التوحيد والعبادة والأذكار والإخلاص بإسرار، وحق القرآن الحافظ بإذن الرحمن من الشيطان، خاصة في هذا الوقت الذي يعج بالفتن والسحر والشعوذة والعين المردية. وحق الرسول صلى الله عليه وسلم من متابعته وقراءة سيرته وبثها بين الخلق والصلاة عليه. وحق الوالدين، وحق الزوج على زوجته من إكرامها وعدم إهانتها، وحق الزوجة على زوجها من طاعته بالمعروف.

اجلس مع نفسك وسَلْها: هل أنتِ ملتزمة بذلك، محافظة على هذه العبادات وغيرها؟ واسألها: يوم كامل أربع وعشرون ساعة، كم جعلت منه لله عز وجل؟ وكذلك من المحاسبة أن تقايس وتوازن بين نعم الله عليك وإحسانه إليك، وإساءتك له ومبارزتك إياه بالمعاصي. فإحسانه إليك نازل وواصل، ومعاصيك له صاعدة وحاصلة. فاستحِ يا عبد الله من ربك، زُرْ نفسك واجلس معها وسَلْها، وقل لها على سبيل المثال: رزقني الله بعينين اثنتين جميلتين أنظر بهما، وغيري فاقد لهذه النعمة لا يبصر ما حوله. وتفكر في حالك وأنتِ عمياء، كيف ستذهبين وتجيئين؟ وكيف تميزين بين الأشياء؟ وكيف تستمتعين بالمناظر الطبيعية الخلابة؟ وكيف تأكلين وتشربين وتعملين؟ فتشعرين بعظيم نعمة الله عليك. هنا قف طويلًا وسَلْ نفسك: هل استعملت هذه النعمة في طاعة المنعم؟ في النظر في كتاب الله ونظرة بر مع ابتسامة إلى الوالدين أو إلى زوجتك أو زوجك؟ أم متعت بصرك في المحرمات وجعلته يتقلب في نساء العالمين طاعة للشياطين؟ فإن كانت في معصيته فما أقل حيائك، وما أشد إساءتك، وما أجرأك على المعاصي!

وتفكر في نعمة أخرى، نعمة الذوق، نعمة صغيرة منحك الله إياها لتميز وتلذ بها. هذا مذاقه مالح وآخر حلو، ونفسك التي بين جنبيك تشتهي هذا المذاق وهذا الطعام، وغيرك فقد هذه النعمة، فالحلو والمالح والمر والسم والماء والشراب كله مذاقه واحد. فهل يا أخي تتذوق الحلال وتحمد عليه ذا الجلال، أم تتذوق الحرام من الشراب والطعام؟

ونعمة المال، سَلْ نفسك الآن قبل أن تُسأل غدًا ولا عمل: هل أتيت بمالك من مصدر حلال أم حرام؟ فإن كان من الحرام فإن جسدًا نما من سحت فالنار أولى به. وهل أنفقته فيما يرضي الله عز وجل أو فيما يغضبه قبل فوات الأوان وتُسأل عنه يوم يجمع الإنسان والجان؟

بل اسأل نفسك وراجعها: لمن أتكلم؟ لماذا أتكلم؟ لمن أعمل؟ لماذا أحب؟ لماذا أبغض؟ من أحب؟ من أوالي؟ من أعادي؟ لماذا أعطي؟ لماذا أمنع؟ بماذا أفكر؟

واقرأ ما قاله السلف الصالح وكيف كانت محاسبتهم لأنفسهم. قال أنس بن مالك: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يومًا، وقد خرجت معه حتى دخل حائطًا، أي بستانًا، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط يقول لنفسه: “عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك”. الله أكبر أيها الكرام، هذا فاروق الأمة يفعل ذلك وهو مبشر بالجنة، فما حالي وحالك؟!

قال إبراهيم التيمي، كما في كتاب “محاسبة النفس” لابن أبي الدنيا: “مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار، آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس، أي شيء تريدين؟ قالت: أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا. قلت: فأنتِ في الأمنية فاعملي”. أنتِ في الدنيا فاعملي للآخرة. وهذا أيها الكرام حساب في الرخاء قبل حساب الشدة.

وهذه المحاسبة تحتاج إلى علم، علم قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم وقال الصحابة، حتى تميز بين النافع والضار وبين الحرام والحلال والهدى والضلال، فتفعل الحلال النافع وتسلك طريق الهدى الرادع، وتبتعد كل البعد عن الشر الواقع.

وكذلك تحتاج هذه الموازنة والمحاسبة إلى عدم الإعجاب بالنفس والغرور بها، حتى لا ترى المعايب محاسن والسيئات حسنات والضارات نافعات، فتغبن يوم القيامة. فذكرك حسناتك ونسيانك لسيئاتك غرور، وكان كما قيل: من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه.

ومما يعينك على المحاسبة أيضًا أن تميز بين النعمة والفتنة. على سبيل المثال، ولدك وابنتك، هل هما نعمة أم فتنة لك؟ فإذا كنت تبخل بالصدقة والزكاة لتنفق عليهما فهما فتنة، وإذا أدبتهما وأحسنت تربيتهما فهما نعمة تقودك إلى الجنة وتحجزك عن النار. وكذلك المال، إن كنت تتصدق منه فهو نعمة، وإن كنت تنفقه في المحرمات والملهيات فهو نقمة، فميز بين ذلك واحذر وانتبه.

وإذا كان الله يمدك بالنعيم من مال وبنين ورفاهية عيش وتجارات وسيارات وأنت مقيم على السيئات والمعاصي المهلكات، اعلم أنه استدراج، فاحذر وحاسب وعد، فهي محنة في صورة منحة.

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].

والحمد لله رب العالمين.

تصنيفات :