
لم تكن الهجرة النبوية حدثًا عابرًا في التاريخ الإسلامي، بل كانت حدثًا تاريخيًا عظيمًا غيّر مجرى التاريخ. ولهذا السبب، لم يكن عبثًا أن يجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه التقويم الهجري تقويمًا رمزيًا للدلالة على انطلاقة الدولة الإسلامية. فالهجرة لم تكن مجرد انتقال من مكة إلى المدينة، بل كانت ثورة ضد الظلم والاستبداد، وبداية لتأسيس دولة الإسلام القائمة على العدل والمساواة.
ومن المسلمات أن بقاء الدعوة في بيئة معادية يعيق مسارها، ويشل حركتها، ويعرض أصحابها لشتى أنواع الأذى والاضطهاد. فهذا أمر صعب الميراث، شاق على الأتباع، ويؤخر انتشار الدعوة وتوسعها. لذا، كان لا بد من إيجاد أرض ومناخ أكثر تقبلًا للدعوة حتى تشع نورها ويصل صداها إلى العالم أجمع. والهجرة ليست بدعة من البدع في الدعوات وأصحابها، فقد حدثنا القرآن عن أنبياء هاجروا وتركوا قومهم وما يعبدون من دون الله. قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: “إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ”، وقال عن لوط عليه السلام: “فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”، وقال عن هجرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: “الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ”.
وكانت الهجرة النبوية بعد سنوات طويلة من الأذى والاضطهاد والتعذيب والثبات على الدين، مما يدل على صدق انتمائهم وصبرهم وتحملهم لشتى أنواع الأذى في سبيل الله. جاءت هذه الهجرة بعد أن عاش أصحابها في ظل نظام جاهلي قائم على الاستبداد الطبقي، وتقديس المال والنسب والقبيلة، وتحقير الضعفاء والعبيد. وقف النبي صلى الله عليه وسلم في وجه هذا النظام، داعيًا إلى الله وتوحيده، ونبذ الشرك وأهله. فكانت دعوته بمثابة ثورة فكرية واجتماعية وأخلاقية وسياسية، هددت مصالح كبار قريش، مما أدى إلى تصاعد الأذى والتعذيب والملاحقة للضعفاء. فكان لا بد من الهجرة، فهاجر بعضهم إلى الحبشة، ثم كانت الهجرة إلى المدينة المنورة بأمر من الله تعالى.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة باكيًا حزينًا، مخاطبًا إياها: “والله إنكِ لأحب أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت”. يعلمنا هذا حب الوطن، لكنه ليس أغلى من حب الدين والدعوة إليه.
الهجرة لم تكن هروبًا من الظلم والأذى، ولا فرارًا من الواقع الأليم، بل كانت خطوة استراتيجية لبناء مجتمع مسلم تسوده قيم العدل والمساواة والحرية. فأسس النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة إسلامية قائمة على هذه المبادئ، وأخذ بين المهاجرين والأنصار في خطوة ثورية كسرت العصبية القبلية التي سادت قريش. تمكن النبي صلى الله عليه وسلم من بناء مجتمع مترابط قائم على العقيدة والدين، لا على القبيلة أو الدم. ثم وضع وثيقة المدينة التي نظمت العلاقة بين المسلمين واليهود وغيرهم، وهي أول دستور يقر بالتعدد والتنوع ويمنح الحقوق والواجبات للجميع. أما بناء المسجد النبوي، فقد كان مركزًا للتعبئة والإرشاد والتعليم، حتى أضحت المدينة المنورة وطنًا مستقلًا للمسلمين، ومنطلقًا للدعوة الإسلامية، وموطنًا للحرية والعدل بعد أن ضاقت بها مكة. كما كانت رمزًا للصبر والثبات والتخطيط والمواجهة والتضحية في سبيل الله. وما هي إلا سنوات قليلة حتى عاد المسلمون إلى مكة فاتحين، مكبرين، مهللين، منتصرين على أعدائهم.
وفي وقتنا الحاضر، تظل دروس الهجرة النبوية مصدر إلهام لكل من ينشد الحرية والكرامة، لا سيما شعبنا الفلسطيني. فهي تذكرنا بأن النصر آتٍ لا محالة، ولكنه لا يأتي إلا بعد الشدة، وأن التغيير يبدأ بالفكرة ثم يثمر بالتخطيط والتضحية. الهجرة دعوة متجددة للثبات على المبادئ ومواجهة الظلم بكل أشكاله، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
ولا يُفهم من الهجرة أن على الفلسطيني أن يهاجر من أرضه ووطنه بحثًا عن الأمن والأمان، بل يجب الثبات على الشدائد والصعاب والبقاء في الأرض لمواجهة الظلم بجميع أشكاله. فالهجرة مصطلح واسع لا يقتصر على المكان، بل يشمل هجر الأفكار والمخططات التي تسعى لإذلال أهل الحق وطردهم من ديارهم. فلابد من هجر التطبيع مع العدو، وهجر مخططاته التي تستهدف إفساد أجيالنا وإغراقهم في الشهوات والشبهات، وهجر قوانين الاحتلال وبضائعه واقتصاده، وغير ذلك من الوسائل المتاحة لمقاومة ظلم الاحتلال وأعوانه.
يجب على المسلم أن يفهم الهجرة ودروسها، فهذا الحدث الذي غيّر مجرى التاريخ يحمل في طياته كل معاني التضحية والثبات والشجاعة والصبر والتحمل في سبيل الدعوة إلى الله والتحرر من الظلم والظالمين. فلولا الهجرة، لما أشع الإسلام نوره، وارتفعت رايته، واعتزت دولته، وثبتت أحكامه، وقضي على أعدائه.
تصنيفات : قضايا و مقالات