التربية الإيمانية قبل قيام الدولة، د. فايز أبو سرحان
يوليو 1, 2025
للمشاركة :

اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ. وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا.

جاء النبي صلى الله عليه وسلم برسالته إلى مجتمع جاهلي غارق في الشرك وعبادة الأصنام، فبدأ بدعوتهم إلى توحيد الله وتعظيمه في النفوس خلال الفترة المكية، استعدادًا للاستجابة الكاملة لما سيكلفون به لاحقًا عند قيام الدولة في المدينة. وقد تحقق الالتزام التام بفضل قوة البناء الإيماني الذي استمر ثلاثة عشر عامًا في مكة.

ركائز التربية الإيمانية في العهد المكي:

الركيزة الأولى: التربية على استصحاب مشاهد الآخرة
قال ابن القيم رحمه الله: “إذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار، ورجاء هذه والهرب من تلك، فترت عزائمه، وضعفت همته، وَوَهَى باعثُه. وكلما كان أشد طلبًا للجنة وعملًا لها، كان الباعث له أقوى، والهمة أشد، والسعي أتم، وهذا أمر معلوم بالذوق.”
كانت السور المكية للقرآن الكريم تتنزل حافلة بتصوير اليوم الآخر وأهواله وحسابه وجزائه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلفت أنظار أصحابه دومًا إلى ما أعده الله لهم في الآخرة ولغيرهم، مؤكدًا أن الدنيا ليست إلا مرحلة أولى يعقبها البرزخ، ثم الآخرة؛ فإما جنة وإما نار. قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾ [العاديات: 9-11]. وأشار إلى أن الحياة الآخرة تُصاغ في الدنيا بالإيمان والعمل والسلوك، كما في قوله تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ [القارعة: 1-11]. هذا جعل الصحابة رضي الله عنهم يحاسبون أنفسهم ويدققون في سلوكهم وأعمالهم.
وحين كانت قريش تتسلط على المستضعفين من المؤمنين في السنوات الأولى للدعوة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم بأن هذه الآلام والعذابات ستزول قريبًا بانتقالهم إلى الدار الآخرة، فقال: «صبرًا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة».

الركيزة الثانية: التربية على الالتزام بالصلاة وتعظيم قدرها
قال يونس بن عبيد رحمه الله: “خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما من أمره: صلاته ولسانه.”
منذ اللحظات الأولى لدخول المسلم في دين الله، كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالصلاة ركعتين قبل غروب الشمس وركعتين قبل طلوعها، ثم فُرضت الصلوات الخمس في حادثة الإسراء والمعراج. كانت الصلاة من أول ما فُرض على المسلمين في مكة. قال الواقدي: “أجمع أصحابنا أن أول من استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل القبلة خديجة، ثم كان أول ما فرض الله من شرائع الإسلام بعد الإقرار بالتوحيد والبراءة من الأوثان: الصلاة.”
نالت الصلاة عناية إلهية خاصة، حيث قام جبريل عليه السلام بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة. وكانت تُعدّ العمل الأكثر دلالة على صلة الإنسان بربه، وحبه إياه، وخوفه منه، وتعلق قلبه به. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حانت الصلاة، خرج إلى شعاب مكة، ومعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستخفيًا من أبيه أبي طالب ومن أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات هناك، فإذا أمسيا رجعا.
قال ابن إسحاق: “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم. فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم. فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً من المشركين بلحي بعير فشجه، فكان أول دم أُهريق في الإسلام.”

الركيزة الثالثة: التربية على مبدأ الأخوة الإيمانية
جاء الإسلام للناس كافة، لم تحمله عشيرة دون أخرى، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس من جميع القبائل إلى الإيمان؛ فأبو بكر من تيم، وعثمان بن عفان أموي، والزبير بن العوام أسدي، وعبد الله بن مسعود هذلي، وعثمان بن مظعون جمحي، وخباب بن الأرت حليف بني زهرة، وبلال بن رباح عبد حبشي، وأسماء بنت عميس خثعمية، وعمار بن ياسر مذحجي.
شعر المؤمنون عند دخولهم في الإسلام أن المجتمع القائم على العشيرة والقبيلة ليس صالحًا ليربطهم به، فأبدلهم الله أخوة إيمانية تربط بينهم بروابط أرقى وأعمق من روابط النسب. كان اجتماعهم ومحبتهم لبعضهم متعلقًا برابط الإيمان وحده.
لم تغفل التربية الإيمانية المكية الجانب الإنساني لهؤلاء المؤمنين الذين قطعوا وشائج القربى والعشيرة، بل أكدت أن هذا الجانب له أثر كبير في تقوية الإيمان بالله. فالمؤمن يجد سنده النفسي والاجتماعي في إخوانه المؤمنين، وعندما تُلبى حاجته النفسية للاجتماع والحب والأخوة، يجد قلبه مفتوحًا وعقله قابلًا لمسائل الإيمان. فيلتقون على طاعة الله ورسوله ويتناصرون في ذلك. كانت اجتماعاتهم معمورة بالطاعة، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 110]: “نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختفٍ بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به.” ولم تكن هذه الأخوة لمجرد الإيناس والترفيه.

كانت هذه التربية الإيمانية هي الأساس قبل قيام الدولة، فالفكرة والعقيدة لا بد لها من وطن ودولة تحميها. وهذا ما تحقق بعد الهجرة وقيام الدولة، بعد فترة طويلة من الإعداد والتهيئة لنظام إسلامي عادل يشمل كل نواحي الحياة، يسعد به البشر في دنياهم ويفوزون في آخرتهم إن التزموه منهج حياة وطريق نجاة.

تصنيفات :