الهجرة.. روح الأمة المتجددة، د. فادي عصيدة
يوليو 1, 2025
للمشاركة :

تأتي الهجرة وتتراءى في الأفق البعيد، لا كحدث مرّ وانقضى، بل كشمس أبدية لا تغيب. فهي ليست رحيلًا من أرض إلى أرض، بل هي انسلاخ الروح من قيود الظلم، وانبعاث النور من رحم الظلام، وصعود الفكرة من حضيض الاضطهاد إلى فضاء التمكين. مكة في ذلك الوقت تراكمت فيها أشباح الكراهية على أنغام الجهل، وضاقت الأرض بما رحبت على حامل الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام. فكانوا ثابتين كالجبال الرواسي، إلا أن الظلم كان يهددهم ويترصدهم بالتهديد في كل زاوية. كانت طرقات مكة تضج بالمكائد والمصائب، ومع ذلك كان الأمل يطل من النوافذ ينادي الموحدين: اخرجوا إلى بلاد تشع لكم حبًا وتفتح لكم القلوب قبل الأبواب. فخرج صاحب الرسالة في سرية مطلقة مع رفيق درب صادق صدوق، خرجوا من مكة لا فرارًا من قدر محتوم، بل رسمًا لقدر جديد. كانت كل خطوة يخطوها النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في تلك الرمال الحارقة، وكل نظرة تلقى على الكعبة وهي تتوارى، تحمل في طياتها معانيَ سامية. فكانت هجرة تحت شعار “إن الله معنا”، كان زادها الصبر الجميل، وكانت التضحية النبيلة عنوانها الأسمى، لأنها تدفع ثمن نصرة الحق وإعلاء كلمة الله.

لم تكن الهجرة رحلة بالجسد فحسب، بل كانت هجرة القلوب والعقول والنفوس، من عتمة الجاهلية إلى نور الإسلام، من العصبية البغيضة إلى الأخوة الإنسانية والإسلامية، من التشتت إلى القوة والتمكين. استقبلت المدينة المنورة بفرح عظيم هذا القادم من بعيد يحمل معه فجر الحضارة الإسلامية، ليرسم للبشرية خريطة طريق نحو العدل والرحمة والسلام. ونحن اليوم لا نذكر الهجرة تسلية ولا حكاية قديمة، بل نذكرها لأنها الروح المتجددة، وفيها الدرس الخالد، وهي المصباح المنير الذي يضيء دروب العزيمة في القلوب تعلمنا أن بعد كل ضيق فرجًا، وبعد كل ظلمة فجرًا، وأن الثمن الأسمى للنصر هو الإيمان الصادق والتضحية الخالصة. ونحن اليوم في فلسطين، إذ نواجه العالم المجرم كله، نستلهم معاني الهجرة وتضحياتها. ولنعلم أن بناء الدولة والأمة ليس بالأمر الهيّن، بل يحتاج إلى صبر عظيم وتضحيات جليلة. فقد قدّم الصحابة ورسولهم صلى الله عليه وسلم لهذا الهدف كل ما يملكون من مال وأرض وولد، وكان شعارهم دائمًا: الدين أولى، الدين مقدم على كل شيء. فلا نعجل إن تأخر الفرج، ولا نستعجل إن ضاقت الأرض بما رحبت، ولنكن على يقين كيقين محمد صلى الله عليه وسلم يوم قال لصاحبه: “لا تحزن إن الله معنا”.

تصنيفات :