
في مواضعها الثمانية من القرآن الكريم، جاءت لفظة “الوهن” بمعنى “الضعف”، إلا أن ثَمَّة فرقًا بينهما. ففي “معجم الفروق اللغوية” في تفسير “ولا تهنوا”: أي لا تفعلوا أفعال الضعفاء وأنتم أقوياء على ما تطلبونه. وكأن تفسيره يصف واقعنا اليوم؛ فأمة الإسلام قد أمدها الله بأسباب القوة، وجعل لها القدرة على التأثير والتغيير، إلا أنها رضيت بأفعال الضعفاء، فما نصروا أهل غزة بقتال، ولا أمدوهم بسلاح أو مال.
والوهن ينزل في الجسد مع تقلبات أحواله، كما في قوله تعالى: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: 4]، وقوله: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ [لقمان: 14].
كما جعله الله في قلوب الكافرين وأعمالهم، فلما التجأوا إلى أوليائهم، وجعلوا اعتمادهم من دون الله عليهم، خاب ظنهم وسعيهم، فمثلهم: ﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ﴾ [العنكبوت: 41].
ولما أرادوا بالمسلمين مكرًا وكيدًا، أضعفه الله تعالى، وردّ كيدهم عليهم، وجعل العاقبة للمؤمنين: ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: 18]، و﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 70].
أما وهن المؤمنين عن قتال عدوهم وجهاده؛ فقد جاءت الآيات عنه ناهية، ومنه محذرة، ولأسبابه وآثاره وعلاجه مفصّلة.
أسباب الوهن
من أسباب الوهن ما يلي:
- حبّ الدنيا وكراهية الموت: فتعليل النهي عن الوهن جاء بقوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ [محمد: 36]. وعاتبت الآيات المسلمين يوم أُحُد: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [آل عمران: 143]. و”المعنى: فأين بلاء من يتمنى الموت” [التحرير والتنوير].
- الشدائد والبلايا بفعل مدافعة العدو وقتاله: وإليها أشارت الآيات الكريمة في سياق النهي عن الوهن في جهاد الكافرين: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ [آل عمران: 140]، ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ﴾ [آل عمران: 146]، ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ﴾ [النساء: 104].
ولما خالطت أسباب الوهن قلوبنا، أوهت قوتنا، وأذهبت ريحنا، فبتنا أمة منزوعة المهابة، فتسلط عليها أعداؤها، يُقتّل أبناؤها ويُبادون ويُجوَّعون… فما نصرناهم… ولا بالطعام أمددناهم… لكن لعدونا وعدوهم أسلمناهم… وما هذا من فعل المسلمين فـ”الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ” [متفق عليه].
آثار الوهن
من آثار الوهن ما يلي:
- الاستسلام والخضوع: فمن سكن الوهن قلبه ذلّ وخضع واستسلم لعدوه، ولا ينبغي هذا للمؤمنين: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ [آل عمران: 146]. بل لا ينبغي لهم طلب السّلم من العدو ضعفًا وخورًا؛ فهو نظير الاستسلام وشكل من أشكاله: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾ [محمد: 35].
- الجزع والهلع عند مواجهة العدو: ففي قوله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا…﴾ [آل عمران: 147] تعريض بمن أصابهم الوهن فصدرت منهم أقوال تنبئ عن جزعهم وهلعهم واستسلامهم للكفار وشكهم بنصر الله تعالى [التحرير والتنوير].
وقد فضحت هذه الآثار أحوالنا: فكم من داعٍ لأهل غزة بالخضوع والخنوع… وكم من يائس من وعد الله بالنصر… وكم من جازع وساخط… وما ذلك إلا من الوهن الذي استقر في القلوب.
علاج الوهن
علاج الوهن ومداواة آثاره يكون:
- بالاستعلاء بالإيمان واستشعار معية الله للمؤمنين: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]، ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ [محمد: 35].
- بالصبر والثبات، والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء، والاقتداء في ذلك بأتباع الأنبياء: فقد ختمت الآية التي نفت الوهن عن أتباع الأنبياء بقوله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146]، ثم ذكرت تضرعهم لله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147].
- باستحضار الأذى والألم والقتل الواقع على الكافرين: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران: 140]، ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ [النساء: 104].
- بالاستبشار بالثواب والأجر والنصر والعاقبة الحسنة للمؤمنين: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ [آل عمران: 139، محمد: 35]، ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ [النساء: 104].
- بالعلم بسنن الله تعالى: فبمعرفتها تطمئن نفس المسلم وتزداد يقينًا بوعد الله تعالى، ومن هذه السنن: سنة المداولة، والابتلاء للمؤمنين، والإهلاك للكافرين ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: 140]، ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 141].
فلنمضِ في مداواة القلوب من هذا المرض العضال… فلا قيام لأمتنا… ولا تمكين لها… إلا بشفائها منه… ولنأخذ الدرس من أهل غزة العزة الذين جاهدوا ودافعوا عدونا وعدوهم: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.
تصنيفات : قضايا و مقالات