هل ثمّة دولةٌ على وجه الأرض تسجن الأجنّة؟، د. وائل محيي الدين
يوليو 30, 2025
للمشاركة :

كان يوسفُ جَنينًا حين سُجن، فحملته فاطمة وَهنًا على وَهن، حتى إذا بلغ أول الرضاعة كان السجنُ مهدَه. لهذا رأى الظلمةَ حين تفتّحت عيناه على الحياة، خلافًا لكلِّ المواليد على وجه البسيطة الذين يخرجون من الظلمات إلى نور الحياة.

كان اسمه بانتظاره قبل أن يولد، وهل في غياهب الجبِّ إلا يوسف؟ لكنّ يوسف الفلسطيني لن تعثر عليه القوافلُ السيّارة، ولا مؤسساتُ حماية الطفل العالميّة، ولن يراوده عن نفسه إلا القيدُ والمحنة.

لكن ثَمّة نسوةٌ كُنّ معه في السجن، يَغمرنه بالرجاء والأمنيات، ويُقَطّعن أعمارَهُنّ كُرمى طفولته، ويَشدُدن أزرَ أمّه التي أصبح فؤادها طافحًا بالقلق والمخاوف.

عامان كان يكبر فيهما يوسف في السجن، مِحنةً بعد محنة، وطفولةً منزوعةً من الحياة، ووالدة تخاف عليه من زَرَد السلاسل، ومن غدر الوحوش التي تتميّز من الغيظ على مدار الساعة… لهذا ظلّت فاطمةُ الزِقّ مسكونةً بالرعب، فلا هي قادرةٌ على طَمأنة قلبها، ولا هي قادرةٌ على تَخيّل تلك اللحظة التي سَيَنتزعون يوسفَ من حِضنها.

وكانت أخواتها في السجن يُبصرنَ الخوفَ الذي يقطر من عينيها فيُحاولن جاهداتٍ أن يُرَبّتن على قلبها، ويَمنحنَ صغيرَها- الذي صار صغيرهنّ جميعًا- الحبَّ والحنانَ والدفءَ وشيئًا من الحياة، حيثُ لا مُتّسع داخل السجن لشيء من الحياة.

ومرّت السنتان، وحانت ساعةُ البلاء العظيم، فجاء السجناء بكلّ ما في قلوبهم من حقد لينتزعوا يوسفَ من حضن فاطمةَ التي تأرجح قلبُها بين الخوف والقلق، والرغبة الخفيّة أن تمنح الحريّةُ هامشًا لضناها، فاستسلمت لحكمة الله، وكأنَّ هاتفًا ناداها مُبشّرًا: “إنّا رادّوك إليه، وجاعلوك من المُحَرَّرِين”.

وكان لها ما تمنّت، وقد مكّن الله المجاهدين من تحريرها وبقيةَ الأسيرات، فالتأمَ الشملُ بيوسفَ، وكانت غزةُ فضاءَهم الطافح بالهواجس والأمنيات.

وعامًا بعد عام كان يوسف يعبر دروبَ الطفولة نحو الشباب، ونجا من ويلات الحروب غيرَ مرة، لكنه ما نجا من الفراعنة الذين تعاهدوا بعد الطوفان على قتل الأطفال، ليلتحق فجرَ الحادي عشر من تموز بركب الشهداء، وقد طوى من العمر سنتين من الأسر، وطفولةً محرومةً، ووطنًا يُقَتّلُ أبناؤه ونساؤه في بثٍّ حيٍّ ومباشر.

تصنيفات :