الوهن والنصر لا يلتقيان، د. شريف إسماعيل قواسمة
يوليو 30, 2025
للمشاركة :

إن المتأمل في النصوص الشرعية سيجد أن النصر من عند الله، ولكنه يأتي لمن يستحقه ويثبت جدارته. أما إذا تخلى الله عن قوم بسبب وهنهم أو تقصيرهم، فلا ناصر لهم، وسيظهر ذلك جليًا للمتأمل في العديد من الآيات، حيث يربط الله تعالى النصر بشروط تتعلق بقوة الإيمان، والعمل الصالح، والوحدة، والتقوى، والصبر، والإعداد الجيد، وكلها صفات تتنافى مع الوهن والضعف. يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]. هذه الآية تربط النصر بنصرة الله، ونصرة الله تكون بالتمسك بدينه والجهاد في سبيله، وهو ما يتنافى مع الوهن والضعف.

وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائل: ومِن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ». فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» [رواه أبو داود]. ففي هذا الحديث، يوضح النبي صلى الله عليه وسلم أن الوهن – وهو حب الدنيا وكراهية الموت – هو سبب ضعف الأمة وفقدانها المهابة والنصر، حتى وإن كانت كثيرة العدد.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» [رواه أبو داود]. هذا الحديث يبين أن الركون إلى الدنيا وترك الجهاد (وهو مظهر من مظاهر الوهن) يجلب الذل والهزيمة. وفي الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير الإسلام أذلنا الله”. فهذا القول يشير إلى أن العزة والنصر يأتيان بالتمسك بالإسلام وقوته، والبحث عن العزة في غيره يؤدي إلى الذل والوهن.

يظهر أن القوة الحقيقية والمنعة والنصر تأتي من الإيمان بالله، والعمل الصالح، والوحدة، والعزيمة، والبعد عن مظاهر الضعف والوهن سواء كانت مادية أو معنوية.

هل يجتمع النصر والوهن؟

هل يجتمع نصر ووهن يومًا؟! أبدًا، لا يجتمع وهن وظفر يومًا، ولا سكنت أمة في ظل العزة وهي متفرقة متنازعة. هذه سنة الله في خلقه، لا تتبدل ولا تتحول، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].

لقد كان المسلمون يوم أن اعتصموا بحبل الله، كلمة واحدة، وصفًا واحدًا، أصحاب راية واحدة، يُرهِبون عدوهم ويأمن بعضهم بعضًا. فحينما اجتمعت قلوبهم على الإيمان، تآلفت أيديهم، وتوحدت صفوفهم، ففتحوا البلاد ونشروا العدل والحق بين العباد. لكن ما إن دبّ فيهم الوهن، وتفرقت كلمتهم، حتى ذهبت هيبتهم وتلاشى سلطانهم. والوهن كما ذكر رسول الله الكريم ﷺ: “حب الدنيا وكراهية الموت” [رواه أبو داود: 4297]. فما أشد أن تُبتلى أمة بهذا الداء!

اليوم، تنظر إلى حال المسلمين، فإذا هم شيع وأحزاب، كلٌّ يدّعي أنه على صواب، وفيما بينهم صراعات تُهلك الحرث والنسل، لا يكاد يمر يوم إلا والدم يُراق بيد أبناء الأمة ذاتها، وما تركوا للعدو شيئًا لينهبه منهم. وما هذا إلا لأن الوهن قد سكن القلوب، فمن أحب الدنيا نسي رسالته، ومن كره الموت تخلى عن مبادئه.

وإن الأمة التي تنشد النصر والعزة لا بد أن تعيد النظر في حالها. فالسهام إذا تفرقت انكسرت، وإذا اجتمعت اشتدت. وكما أن الماء إذا تسرب بين الصخور ضاع هدرًا، كذلك قوة المسلمين إذا ضاعت في الصراعات العبثية المقامة لإرضاء مسرحية الفتنة لا يبقى منها شيء. وإن أمة الإسلام اليوم كالجسد الذي تفرقت أعضاؤه، لا يقوى على القيام، ولا يقدر على الذود عن نفسه. ولله درّ القائل: “إذا لم تجمعنا العقيدة يجمعنا الحديد، ولكن الحديد بلا عقيدة صدأٌ ذليل”.

فلنعد إلى كتاب الله، ونجتمع على كلمة سواء، نخلع عنا حب الدنيا، ونعيد لقلوبنا حب الجهاد والاجتهاد والعلم والعمل، فالضعف والنصر خطّان لا يلتقيان. هذه قاعدة لا يحيد عنها التاريخ ولا تخرقها السنن.

تصنيفات :