
لطالما سعى هذا الدين العظيم إلى توجيه بوصلة القلوب نحو الدار الآخرة، وتبيين حقيقة الدنيا وتزهيد القلوب بها، فهي دار عبور لا قرار، وكل ما فيها يبلى، ويفنى، ويتفكك، ويزول، وقد نبه القرآن مرارا وبث النداء في أرواح المؤمنين قائلا: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ”.
فقد وضح القرآن توضيحا لا يخفى على كل ذي لب وقلب حقيقة الدنيا، وأن من لم يزهد بها زهدت به، وأن من يركض خلفها ألقته على قارعة الطريق، وأن التعلق بها رأس كل خطيئة ودنية، وهو من موهنات النفس، ومما يضعف العقيدة ويرقق الإيمان، ويفتت العزائم، ويجعل الملذات تتربع على عرش قلب المؤمن، فيورثه ذلك وهنا وخوفا، ويصرفه عن معالي الغايات، ويشرب قلبه حب الدنيا، وكراهية الموت واستبعاد الفناء، ووالله أن الدنيا حلوة خضرة لكنها سرعان ما تنقضي ويقف كل منا بين يدي ربه، ليرى ما قدم لنفسه ولأمته ودينه وعقيدته، فما أقساه وأصعبه من يوم!
أفلا ترى أعزك الله خط الدفاع الأول والجبهة الأولى في تحصين الأمة ورفعتها شباب أمة الإسلام كيف صارت أحوالهم، كيف باعوا الآخرة بعرض من الدنيا قليل، كيف سكنت الدنيا قلوبهم وسلبتهم بشهواتها وملذاتها، شبابنا أصبحت مساجدنا منهم خالية، مآذننا ومنابرنا تنتحب شوقا إليهم، صلاة الفجر تبكيهم، فذاك مضيع لصلاته، وذاك مطلق لأخلاقه، وهذا مقلد لثقافة الغرب وبها معجب، وفلان ساخر من أبناء دينة وجلدته، وآخر غافل عن أحزان أمته، وأحدهم لاهث وراء عوالم التفاهة والتريندات الفارغة.
فأصبح الواحد منا همًّا على أمته بدلا من أن يحمل همّها، وبدلا أن يحقق النموذج القرآني بقوله تعالى: “إن إبراهيم كان أمة”، صار الفرد منا كالقصعة التي تتداعى عليها أكلتها ومهلكاتها من كسل وخور وهوان وذل وانكسار، وهذا ما أورث الأمة برمتها الخور الجماعي والتراجع الجمعي، فعن أبي عبد السلام، عن ثوبان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت”.
فصار حال الأمة أوهن من الأيتام على مائدة اللئام، نزع الله المهابة منها، وأحاطها بسوار العجز والكسل، وكثر قهر الرجال فيها، وتسابق الأعداء على نهب مقدراتها واستباحتها بعد أن كانت حرما آمنا، وإهانتها من بعد طهر وقداسة.
وأنني لأسمع صدى عائشة أم الأمير أبي عبد الله محمد الثاني عشر عندما وبخته قائلة:
“ابك كما النساء على ملك لم تحافظ عليه كما الرجال”، وذلك عندما تهاوت حصون الأندلس وسلمت مفاتيحها بيد ترتعش خوفا وذلا، لتطوى صفحات التاريخ على سبعة قرون من الوجود الإسلامي، سكتت المآذن، وصمت الآذان، وعم الحزن في سماء المسلمين، واستبدل الكفر بالإيمان، وما تهاوت تلك الحصون المنيعة إلا لذل أشرب في قلوب أصحابها، وما سلبت عزتهم وكرامتهم إلا لمسافات قطعت بينهم وبين دينهم!
فيا أبناء أمتنا، يا نداء رسول الله، يا راية النصر، ويا نهضة الوحي، ونبض الدين في شرايين الأمة، أقول ما قاله الشاعر:
“قد بنت أمتي
عليكم من الأمل المنتظر
صروحاً تقاوم عصف الظلام
وتهزأ بالفسق أنى ظهر
فهلّا جعلتم لبنيانكم
أساسا من الحق يأبى الضرر”
إن القلوب الخاوية لن تنتصر، والنفوس الضعيفة لن تسير، والرايات الخفاقة لن ترفرف فوق الحصون الخاوية، وشارة النصر لا تغرس على القمم المتهالكة، وسارية التمكين لن تسير في قوافل الضعفاء..
تصنيفات : قضايا و مقالات