
المسجد الأقصى عقيدة وإيمان، وروح ووجدان، وهو وقف إسلامي إلى آخر الزمان. وقد جعله الله آية في كتابه، فقال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ \[الإسراء: 1]. وقد ظلّ المسجد الأقصى المبارك عبر القرون محورًا للصراع بين الحق والباطل؛ فاحتله الصليبيون لعشرات السنين، وداسوه بحوافر خيولهم، وجعلوه إصطبلاً لها بعدما ارتكبوا المجازر في ساحاته، وها هو اليوم يتعرض لاعتداءات متكررة واقتحامات يومية من قِبَل قطعان المستوطنين في محاولة منهم لتهويده وفرض واقع جديد بتقسيمه.
وهذه الاقتحامات المتكررة تحدٍّ سافر لمشاعر ملياري مسلم حول العالم، فحينما تدوس أقدام المغتصبين ساحات المسجد المبارك فإنها تدوس بذلك كرامة كل مسلم؛ لأن المسجد الأقصى أمانة في أعناقهم. فإليه كان الإسراء، ومنه كان المعراج، وفيه صلى النبي ﷺ بالأنبياء، وقد جعله الله ميدانًا للمرابطين إلى يوم الدين.
غير أنّ المصيبة أن تُداس أرضه المباركة كل يوم ولا تتحرك قلوب المسلمين للدفاع عنه بالطرق الواجبة. والأخطر من العدوان هو خذلان الأقصى والمرابطين فيه. وهذا حالنا اليوم، يشبه حال الأمة قبل حطين، يوم كانوا غُثاء كغُثاء السيل.
وإذا كان خطر الاقتحامات واقعًا ملموسًا، فإن الخطر الأكبر هو تقاعس الأمة الإسلامية عن القيام بواجبها الشرعي تجاه مسرى نبيها ﷺ. وقد وصف القرآن حال الضعف والوهن حين يدخل في قلوب المؤمنين، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]. فالوهن الحقيقي ليس في قلة العدد أو العُدّة، وإنما في ضعف الإرادة وتعلّق القلوب بالدنيا، كما أخبر النبي ﷺ حين قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكن غُثاء كغُثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن». قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» (رواه أبو داود).
ومن الجدير بالذكر أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى يوم تسلَّم مفاتيح القدس، لأنه عرف ثِقَل الأمانة. وبالرغم من ذلك، فإن أعداءنا يبتسمون اليوم لأنهم رأوا منّا ضعفًا وتكاسلًا وتقصيرًا تجاه المسجد الأقصى. فما أحوج أمة النبي ﷺ إلى نصرة مسرى نبيها! فنصرة الأقصى لا تحتاج إذنًا من أحد، بل تحتاج قلبًا نابضًا بالغيرة، ويدًا عاملة، ولسانًا داعيًا، ومالًا يُنفق في سبيل الله. فهي ليست خيارًا، بل واجب شرعي وفرض على الأمة، كلٌّ بحسب طاقته.
ولا شك أنّ قضية الأقصى كانت دائمًا قضية الأمة جمعاء، وهي قضية وعي قبل أن تكون معركة، وقضية إرادة قبل أن تكون عُدّة. فإذا استيقظت الأمة وتحررت من قيودها وحبها للدنيا، عادت إليها عزتها ونصرتها. ويوم هبَّ صلاح الدين الأيوبي لتحرير الأقصى لم يكن ذلك بدافع قومية أو حدود، بل بدافع عقيدة وإرادة، مستشعرًا قول النبي ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من لأواء حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (رواه مسلم).
أمة الإسلام، إن الأقصى يناديكم، فهل من مجيب؟ لقد دنَّسته الأقدام، وحاصرته البنادق، وأُبعِد أهله عنه، والله يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ [آل عمران: 103]. عدوّنا واحد، لكننا تفرّقنا، فهانت علينا مقدساتنا. أعيدوا للأقصى مكانته في قلوبكم وأعمالكم؛ لأنه قضيتكم الأولى. فالمعركة معركة هوية وعقيدة، ومَن ضيّع الأقصى اليوم، أضاع كل مقدّس غدًا.
الخلاصة: إن كثرة اقتحامات اليهود للأقصى جرس إنذار لكل مسلم أن يراجع نفسه ليعرف واجباته تجاه قبلته الأولى، ويستشعر عِظَم الأمانة. فالسكوت خذلان، والتقاعس إثم، والعمل لنصرة الأقصى شرف وواجب. وقد قال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: 72].
—
تصنيفات : قضايا و مقالات