اقتحام المسجد الأقصى: دلالات خطيرة ومستقبل أخطر، د. حذيفة اسليمية
سبتمبر 1, 2025
للمشاركة :

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين، وبعد؛

يمثل المسجد الأقصى المبارك، بما يحمله من قدسية روحية وتاريخية، حجر الزاوية في الهوية الدينية والتاريخية للأمة الإسلامية، ورمزًا للصمود الفلسطيني في وجه الاحتلال. فهو ليس مجرد مكان للعبادة، وليس ترابًا وطينًا، بل هو عقيدة ودين.

وفي ظل استمرار عمليات الاقتحام المتكررة من قبل المستوطنين المتطرفين وقوات الاحتلال الإسرائيلي، لم يعد الأمر مجرد استفزازٍ عابر، بل تحول إلى استراتيجية ممنهجة تحمل في طياتها دلالات عميقة الخطورة، وتنذر بمستقبل أكثر قتامةً وتعقيدًا يهدد الاستقرار في المنطقة والعالم.

لقد فُرضت الاقتحامات على المسجد الأقصى بشكل يومي بدءًا من عام 2003، حيث كانت تتم من قبل أفراد أو في مجموعات صغيرة لا تزيد عن 5 أفراد، لتصبح أفواجًا من 20 شخصًا في عام 2006 مع السماح بتواجد فوج واحد فقط داخل الأقصى، وانتظار خروجه ليدخل فوج آخر. اليوم، بات فوج المقتحمين الواحد يصل إلى 200 مقتحم، مع السماح بتواجد 6 أفواج متزامنة داخل الأقصى، ليصل عدد المقتحمين في لحظة واحدة إلى 1200 مقتحم. كما خُصصت أوقات لاقتحام الصهاينة عام 2008، بدأت بثلاث ساعات وأخذت تتزايد تدريجيًا حتى باتت اليوم ست ساعات وربعًا موزعة على فترتين: الأولى وقت الضحى والثانية بعد صلاة الظهر، مع حصار كامل للمسجد وتضييق شديد على دخول المصلين خلالها. وهذا المسار بمجموعه هو ما يُعرف بـ”التقسيم الزماني للأقصى”، وما زال مسعى زيادة الأوقات وأعداد المقتحمين وأيام الاقتحام مستمرًا.

واستمرت الاقتحامات تتزايد وأعداد المقتحمين تزيد إلى أن وصلت الخطورة ذروتها في عدوان “ذكرى خراب الهيكل” يوم الأحد 3 أغسطس 2025. فهذا الاقتحام هو الأكبر عدديًا في تاريخ المسجد الأقصى بعد احتلاله، وأحد أقسى الاقتحامات من ناحية فرض الطقوس التوراتية فيه، حيث شهد الأقصى اقتحام 3969 مستوطنًا، أي قرابة الأربعة آلاف مقتحم وفق إحصاءات الأوقاف، مقارنة بالرقم السابق المسجل عام 2023 في المناسبة ذاتها والذي بلغ قرابة ثلاثة آلاف مقتحم، وتسجيل رقم 2200 مقتحم على مدى عامي 2022 و2023. وبذلك كرست جماعات الهيكل أن “ذكرى خراب الهيكل” باتت يوم تجديد العهد ببناء الهيكل من خلال تسجيل الرقم القياسي للمقتحمين فيه، بعد أن كان في الأصل يومًا للمراثي والأحزان والبكائيات على هدمه الأول والثاني وفق الأسطورة التوراتية.

ومحصلة ذلك أنه كان تتويجًا لمرحلة انتقالية كان هدفها فرض هوية يهودية في الأقصى موازية لهويته الإسلامية، تمهيدًا لقضمه بالكامل وتحويله إلى هيكل يهودي خالص.

أولًا: دلالات الاقتحام المتكرر

إن اقتحام المسجد الأقصى لا يمكن فهمه على أنه مجرد فعل عابر أو حادث منفرد، بل هو خطوة ممنهجة ضمن مشروع تهويدي يستهدف تقسيم الأقصى زمانيًا ومكانيًا، كما حدث في المسجد الإبراهيمي في الخليل. يترافق ذلك مع دعم سياسي وتشريعي من حكومة الاحتلال، وتصريحات تحريضية من قادة اليمين المتطرف تضفي الشرعية على هذه الاقتحامات، وتهدف إلى:

  1. فرض أمر واقع جديد: تحاول سلطات الاحتلال ترسيخ سيادة إسرائيلية فوق المسجد الأقصى، رغم أنه مكان خالص للمسلمين.
  2. استهداف المقدسات وتفجير الصراع الديني: تحول الاحتلال الإسرائيلي من استهداف الأرض والشعب الفلسطيني إلى استهداف المقدسات الإسلامية بشكل صريح وممنهج. فاقتحام الأقصى، خاصة في أوقات المناسبات الدينية الإسلامية كرمضان، تحت حماية قوات الاحتلال هو استفزاز متعمد يهدف إلى تغيير الوضع القائم وتهويد المكان.
  3. تكريس ثقافة الإفلات من العقاب: استمرار هذه الانتهاكات الصارخة تحت سمع وبصر المجتمع الدولي، دون اتخاذ إجراءات رادعة حقيقية، يرسخ رسالة خطيرة بأن القوة هي فوق القانون.
  4. استهداف الوعي الجمعي: الاقتحامات ليست اعتداءً على مكان فحسب، بل هي اعتداء على عقيدة المسلمين بالمسجد الأقصى المبارك، وتهدف إلى كسر إرادة الصمود، وطمس معالم الحقائق، وفرض رواية توراتية أسطورية مكان التاريخ الحقيقي، كجزء من الحرب النفسية التي تمهد لتصفية القضية برمتها.

ثانيًا: مستقبل خطير يلوح في الأفق

إذا استمرت الاقتحامات بهذا النسق دون محاسبة، فإن المستقبل يحمل سيناريوهات خطيرة:

  1. تصعيد المقاومة: شعب فلسطين، الذي يعتبر الأقصى جزءًا من عقيدته وهويته، لن يقف صامتًا أمام الانتهاكات، وقد تمتد شرارتها لتفجر المنطقة بأكملها، جاعلة من القدس شرارة حرب إقليمية لا تحمد عواقبها.
  2. انفجار شامل: قد تدفع الاستفزازات المتكررة للمشاعر المقدسة إلى انفجار شعبي عارم لا يمكن السيطرة عليه، يشعل انتفاضة ثالثة تكون أوسع وأكثر عنفًا، وقد تمتد شرارتها لتشمل المنطقة بأكملها، جاعلة من القدس شرارة حرب إقليمية لا تحمد عواقبها للإسرائيليين.
  3. تثبيت الوجود اليهودي: ستسعى هذه الاقتحامات إلى تصعيد ممنهج لتثبيت الوجود اليهودي داخل المسجد الأقصى، وفرض تقسيم زماني ومكاني، على غرار ما حدث في المسجد الإبراهيمي بالخليل.

ختامًا:

إن اقتحام المسجد الأقصى ليس حدثًا محليًا فحسب، بل هو اعتداء مباشر على مقدسات المسلمين، وتحدٍ سافر لمشاعر أكثر من ملياري مسلم حول العالم. لذلك، فإن المسؤولية تقع على عاتق الجميع: الشعوب، والعلماء، وصناع القرار، والمنظمات الدولية. فمواجهة هذا الخطر لا تقع على عاتق الفلسطينيين وحدهم، بل هي مسؤولية عربية وإسلامية ودولية.

فالمطلوب هو تحرك جاد يتجاوز الشجب والاستنكار إلى فرض تكلفة حقيقية على الاحتلال، ودعم صمود أهل القدس، والتحرك الجاد للدفاع عن أولى القبلتين وثاني المسجدين. وإذا استمر الصمت، فإن الخطر القادم قد يكون أكبر من مجرد اقتحام، وقد يصل إلى تهديد وجود الأقصى نفسه. فالتخاذل عن المسجد الأقصى هو تهاون بمصير أجيال قادمة.

تصنيفات :