كيف رسخ الإسلام مفهوم الصمود في أرض الرباط؟، د. عبد الله فهمي جرادات
سبتمبر 1, 2025
للمشاركة :

منذ فجر الإسلام ارتبطت فكرة الصمود والرباط باليقين بأن هذه الأرض المباركة ليست مجرد تراب وحجارة، بل أمانة ورسالة. فلسطين التي وصفها القرآن الكريم بأنها الأرض التي بارك الله حولها، لم تكن ساحة صراعٍ عابر، بل ميدان ثبات يُختبر فيه الإيمان والولاء.

الإسلام لم يُقدِّم الصمود كخيار ثانوي، بل جعله جزءًا من العقيدة. ففي الحديث الشريف: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها»، يعلو صوت النبوة ليمنح الرباط قيمة تفوق كل زخارف الدنيا. هنا يصبح الثبات على الأرض عبادة، ومرابطة المرابطين صلاةً ممتدة لا تنقطع، يحرسون بها حدود العقيدة قبل حدود الجغرافيا.

أرض الرباط لم تعرف الصمود في ساحات القتال فحسب، بل عرفته في البيوت والأسواق والمدارس؛ حين يُزرع الزيتون رغم الجدار، وحين يُعلَّم القرآن في أزقة القدس، وحين تحيا صلاة الفجر في الأقصى رغم القيود. هذا هو الصمود الذي رسَّخه الإسلام: صمود يصنعه اليقين بأن النصر وعدٌ إلهي، وأن البلاء مهما اشتد فالمآل للمتقين.

وفي التاريخ، لم يغب هذا المعنى عن أهل الرباط؛ من الفتح العمري، إلى معركة حطين، إلى انتفاضات العصر الحديث، ظل المرابط يرى نفسه حلقة في سلسلة من حماة هذه الأرض. ما بين جندي يقف على الثغور في العصور الأولى، وفتى يحمل حجرًا في وجه المحتل اليوم، يمتد خيط واحد من الإيمان والثبات.

كما رسخ الإسلام الصمود من خلال ربطه بالثواب الأخروي؛ فالموت على هذه الأرض دفاعًا عنها أو صبرًا على الابتلاء فيها هو شهادة يعلو بها مقام صاحبها. وهذا المعنى منح أهل فلسطين طاقة لا تنضب، إذ صار الدفاع عن الأرض دفاعًا عن الدين، وحماية المقدسات حماية للهوية والروح.

والأمة كلها معنية بهذا الصمود. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتي أمر الله وهم كذلك» (رواه مسلم). وقد أجمع العلماء على أن هذه الطائفة المرابطة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس وما حوله.

اليوم، حين نرى المرابطين والمرابطات في ساحات الأقصى، ونرى الصامدين في أرض العزة غزة، رغم التجويع والحصار والخذلان، ورغم القصف والدمار، صامدين محتسبين، ندرك أن الإسلام لم يترك الصمود مجرد شعارات، بل زرعه في القلوب، وغذَّاه بالوعد، وربطه بالعبادة. إنهم يعيشون الرباط في كل تفاصيل حياتهم، ويجسِّدون العقيدة في كل أطرافها، ويحفظون الهوية رغم كل محاولات الطمس.

إن الصمود في أرض الرباط ليس موقفًا مؤقتًا، بل هو عهد إيماني ممتد، وهذا العهد الذي خطَّه الإسلام في نفوس المؤمنين سيظل حيًا ما بقي الأذان يُرفع في القدس، وما بقيت قلوب تأبى أن تسلِّم مفاتيحها إلا لمالك الملك.

تصنيفات :