
بسم الله الرحمن الرحيم
الصبر على الرباط في زمن الفتن
الحمدُ للهِ الذي جعلنا رأسَ حربةٍ في الذودِ عن أمةِ الإسلامِ وأرضِها رباطًا وجهادًا، والصلاةُ والسلامُ على النبيِّ الأمينِ الذي خصَّ أهلَ الشامِ بأحاديثِه وصِياً واحتفاءً، وبعد:
فإن من أجلَّ القرباتِ عندَ اللهِ تعالى ما كان نفعُه للمسلمينَ أعظمَ، وإن من أجلِّها اليومَ الجهادُ والرباطُ، وهو الإقامةُ في الثغورِ، وهي الأماكنُ التي يخافُ على أهلِها من فتنِ الأعداءِ؛ يَرابطُ فيها المسلمُ مُعِدًّا نفسَهُ للدفاعِ عن الدينِ والعِرْضِ والأرضِ.
وَفَضلُ الرباطِ عظيمٌ؛ فقد قالَ الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون). [آل عمران: 200]، فهو أحدُ القرباتِ التي تُوصِلُ إلى الفلاحِ، وأنبأنا النبيُّ ﷺ عن عظيمِ أجرِه في أحاديثَ كثيرةٍ؛ فهو خيرٌ من الدنيا وما عليها، ويُضاعِفُ لصاحبهِ عملَهُ بعد الموتِ، ويأمِّنُهُ من فتنةِ القبرِ، ويؤمِّنُهُ يومَ الفزعِ الأكبرِ، ولا تُمسُّهُ النارُ. ومن عظيمِ فضلهِ أنَّه أعظمُ من مجاورةِ المساجدِ الثلاثةِ: الحرامِ، والنبويِّ، والأقصى، كما نصَّ على ذلكَ الإمامُ مالكٌ والإمامُ أحمدُ وابنُ تيميةَ.
كيف لا؟ والمقيمُ في المساجدِ الثلاثةِ اعتكافًا نفعُهُ لنفسِه، في حينِ أنَّ المرابطَ ينتَفِعُ به عمومُ المسلمينَ أمانًا: التاجرُ في متجرِه، والصانعُ في صنعَتِه، والعالِمُ في تعليمِه…
الرباطُ دأبُ الصالحينَ؛ فهذا عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ دَلاَّ مَنْ سألَهُ عن أفضلِ الأعمالِ إلى الرباطِ والجهادِ؛ وكَذَلِكَ الحارثُ بنُ هشامٍ، وعكْرِمَةُ، وصفوانُ بنُ أميةَ، وسهيلُ بنُ عمروٍ، ومن بعدِهم: الأوزاعيُّ، والفزاريُّ، وعبدُ اللهِ بنُ المباركِ، ومخلَّدُ بنُ الحسينِ، وأمثالُهم كثيرون.
الواجبُ على المرابطِ أن يُخلِصَ النيةَ للهِ تعالى، ويثبتَ عند لقاءِ العدوِّ، ويكثرَ من ذكرِ اللهِ تعالى، ويلزمَ طاعةَ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم، ويحذرَ من العجبِ والاعتزازِ بالكثرةِ والقوَّةِ.
أما الرباطُ في فلسطينَ فله مفهومٌ أوسعُ من أنْ يكونَ على حدودٍ إسلاميةٍ فقط، فالعدوُّ فيها داخلٌ وجاثمٌ على صدورِنا؛ يفتِنُنا ويفتكُ بكلِّ شيءٍ: عقيدةً، وفكرًا، وأخلاقًا، وأمناً، وأرضًا، ومالًا… ومن هنا كان للرباطِ في هذه الأرضِ المباركةِ مفهومٌ أوسعُ؛ فهو في أيامِ الفتنِ رباطٌ في الدفاعِ عن الفكرِ والعقيدةِ وتلقينِها للأجيالِ ومقاومةُ كلِّ فكرٍ منحرفٍ؛ ورباطٌ في حمايةِ المجتمعِ من فسادِ الأخلاقِ الذي يوصِلُ إلى السقوطِ الأمنيِّ؛ ورباطٌ في العلمِ والتعليمِ لاستمراريةِ ثقافةِ المحافظةِ على الهويةِ الوطنيةِ والإسلاميةِ؛ ورباطٌ في الذودِ عن الأرضِ والمقدساتِ والأقصى. فالرباطُ في زمنِ الفتنِ يشملُ الثباتَ الروحيَّ والفكريَّ والعمليَّ والعسكريَّ والخلقيَّ، والدفاعَ عن هويةِ الأمَّةِ في أحلكِ الأوقاتِ.
وقد ابتُلِي المسلمونَ عامةً بالفتنِ عن دينِهم، وتشويهِ مفاهيمِ الإسلامِ في حياتِهم، وكانتِ الفتنةُ لأهلِ فلسطينَ أشدُّ؛ لوجودِ من يفتِنُهم عن دينِهم تشويهًا، وعن أرضِهم تهجيرًا، وعن أموالِهم حرقًا وإتلافًا، وعن حريَّتِهم سجنًا…
وإذا كانَ الأمرُ كذلكَ، فما أحوجَنا إلى الصبرِ على الرباطِ في زمنِ هذهِ الفتنِ، وقد أرشدَنا الحبيبُ ﷺ إلى الصبرِ معظّمًا لنا عليه الأجرَ، فقال: «إنَّ من ورائِكم أيّامًا؛ الصبرُ للمتمسّكِ فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليه أجرُ خمسينَ منكم». قالوا: «يا نبيَّ اللهِ أو منهم؟» قال: «بل منكم». رواه الطبراني، وصحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة. فحَسْبُكَ أن تكونَ صابرًا على النوائبِ، ومرابِطًا على أرضِك المباركةِ لك مثلُ أجرِ خمسينَ من الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم. وقال صلى الله عليه وسلم: «العبادةُ في الهرجِ كالهجرةِ إليّ». رواه مسلم؛ والمرادُ بالهرجِ: الفتنةُ واختلاطُ أمورِ الناسِ، كما أشارَ النوويُّ. فلك مثلُ أجرِ من هاجرَ من مكةَ إلى المدينةِ من الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم.
وفوقَ الأمرِ بالصبرِ، الأمرُ بالمصابرةِ؛ كما قالَ تعالى مخاطبًا إيَّنا بصفةِ الإيمانِ: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا). [آل عمران: 200]، والمصابرةُ مصابرةُ الوعدِ بانتظارِ الفرجِ، وانتظارُ الفرجِ بالصبرِ عبادةٌ.
وهذا الأجرُ العظيمُ ينالهُ المؤمنُ بقدرِ اللهِ الصابرِ المحتَسِبِ في هذه الديارِ، وقد ينالُ مثلهِ أو قريبًا منهُ من أعانَ المرابطينَ في ديارِنا على الثباتِ بشتى الوسائلِ الماديةِ والمعنويةِ من غيرِ أهلِ هذهِ الديارِ؛ فمن جهَّز غازٍ فقد غزا.
فليسَ لنا في بلادِنا إلا الثباتُ، والصبرُ على تجبُّرِ الأعداءِ، والصبرُ مع قلةِ الناصرينَ وكثرةِ المثبِطينَ، وعدمُ الهجرةِ طمعًا في عرضِ الدنيا؛ هكذا أرشدَنا الحبيبُ الأسوةُ صلى اللهُ عليه وسلم.
أيها المرابطُ الصابر: اللهُ اجتَباكَ من بينِ مئاتِ ملايينَ المسلمينَ لتكونَ مرابطًا هنا؛ فكن على قدرِ هذا الاجتباءِ حمداً وصبراً. ألا تُحبُّ أن تكونَ سهمًا في كنانةِ الإسلامِ يرمِي بك اللهُ عدوَّه فيردُّ بك فتنَ الكفرِ عن الإسلامِ وأهلهِ؟
تصنيفات : قضايا و مقالات