ولد في نابلس عام ( 1925 م ) ونشأ يتيم الأب برعاية أمه وإخوته الكبار الذين كانوا على درجة كبيرة من الورع والتديّن والحياء…
درس المرحلة الابتدائية في مدرسة (السباعي) بحيفا حيث كان مركز عمل إخوته الكبار ، وما يزال يحتفظ حتى الآن بمصحف قدّمه له مدير المدرسة تكريما لتفوقه في الصف الأول الابتدائي ..
ثم بعد أن نشبت حرب عام 1948 ، اضطرت العائلة جميعا للعودة إلى نابلس ، ضمن ظروف قاسية تمثلت بنهب اليهود لممتلكاتهم التي تركوها في حيفا ، وانقطاع عملهم هناك ، وضياع وثائق لمبالغ كبيرة جدا من الديون التي كانت لهم عند زبائنهم ، واستشهاد أخيه الأوسط ( رضا ) في المعارك التي دارت مع العصابات الصهيونية في جبال نابلس ، واضطرار أخته الصغرى إلى النزوح مع زوجها السوري إلى أبعد نقطة حدودية في سوريا مع العراق ( البوكمال ) ، ثم وفاة أخيه الأكبر والمعيل لهم في حادث عمل قاس ، قاسى منه قبل وفاته فترة طويلة كان فيها شبه مشلول أسيراً للفراش … ، وقد راقب ذلك الفتى صورا نادرة من الصبر والاحتساب… فنشأ على قدر من الدين والحياء والتعفف والوقار ، وتلميذا نجيبا في مدرسة الصبر والعصامية والهدوء..
وما أن بدأ يعي ما يجري حوله ، ويشتد عوده النحيل حتى بادر إلى العمل موظفا بأجر رمزي في إحدى البقالات التي ما لبث صاحبها أن أوكل إليه جميع شؤون البقالة من بيع وشراء وحسابات ومعاملات ، لما رأى لديه من أمانة وتقوى قلّ نظيرها ، فقد كان يخشى الله في أموال الرجل النقدية والعينية ،.. وكان صاحب المحل قد ( ضبطه ) مرة يصنع لنفسه شايا من علبتين صغيرتين فيهما سكر وشاي اشتراهما من المحل بجزء من راتبه الضئيل ، فأقسم عليه الرجل أن يصنع الشاي من حساب المحل ، فأبرّ الشاب بيمين صاحبه طالما كان موجودا في المحل ، فإذا غاب عنه عاد الفتى إلى علبتيه .. وكان يحرص دائما على التصدق بالابتسام في الوجوه ، وإفشاء السلام ، وإتباع السنن ما استطاع إلى كل سُنـّة ، ولو بإماطة الأذى عن الطريق ، وإماطة كل ورقة قد خـُطت فيها ولو كلمة من اللغة العربية ، خشية أن يكون فيه ذكرٌ لله ، أو أن تتطابق فيها كلمة مع كلمة من القرآن الكريم..
وكان يدأب على خصال حميدة شتى يفتقدها الشباب في مثل عمره آنذاك ، مما لفت إليه انتباه الشيخ العلامة (عبد الله المعاني) أحد كبار مشايخ نابلس في ذلك الوقت ، فاصطفاه (عديلا ) له وقرّبه إليه بأن ( خطبه ) إلى أخت زوجته عام 1959، فارتضته العروس لها عريسا ، وارتضاه أهلها لما كان يتحلى به من دين وخلق، وحسن سيرة وسريرة .. إلى جانب وجهٍ مضيء صبوح..
وكان محل البقالة الذي عمل فيه قبل زواجه بفترة طويلة ملاصقا للباب الرئيسي للمسجد الصلاحي الكبير في المدينة ، فما أن ينادي المنادي للصلاة حتى يترك ما في يديه ملبيا.. فألـِفَ المسجد يمكث فيه بعد انتهاء العمل ، وانضم إلى حلقة علم لتدريس تجويد القرآن الكريم ، كان هو أصغر التلاميذ فيها ، وما أن بدأ يسأل ويربط ويستنتج ، حتى بدأ يظهر الإنكار على بقية التلاميذ المسنين أنه يسأل ، وأنه لا يأخذ كل معلومة بالتسليم دون استفسار، حتى وإن كان الاستفسار في غاية الأدب واللباقة واللياقة والحياء.. ثم ما لبث القوم أن أوغروا صدر أستاذه عليه ، فنبذه.. وخاصة أنه قد وجده حريصا على كراسة جمع فيها كل شاردة وواردة تتعلق بهذا العلم الذي أحبه ووافق هواه ، وانسجم مع تعلقه بالقرآن والمسجد .. فاعتبره أستاذه (المسنّ جدا) (؟) أنه خارج عن أصول الأخذ بالتجويد على الطريقة التي اعتادها وعهدها مع تلامذته ، وكان قد بلغ السيل الزبى عند شيخه عندما رأى الفتى رأيا بحكم ٍ في التجويد لكلمة من القرآن، لا ينسجم ما يقوله شيخه فيها مع قاعدةٍ تعلمها منه .. وأصرّ الشيخ أن حكم هذه الكلمة مختلف عن القاعدة التي يشير إليها الشاب الصغير مع كثير من التعنيف والاستهزاء والغضب.. فلم يمنعه حياؤه أن يصرّ على فهمه للحكم . والشيخ لم يمنعه علمه من الإصرار على رأيه دون تثبّتٍ أو تمحيص ٍ وتمهل … فضاقت الأرض بما رحبت في ذلك اليوم على الشاب المنطلق في حبه وشغفه لهذا العلم .. فوجد نفسه يبتعد عن محيط حيّه ومسجده ، وقدماه تجرانه جرا لصلاة المغرب في مسجد آخر، وكان كعادته يمشي غاض البصر ، بالإضافة إلى ما يثقل كاهله في ذلك اليوم .. فلم يرفع عينيه عن الأرض ، ولم يمنعه همّه وانشغال ذهنه عن عادته في أن يرفع عن الأرض كل قصاصة ورق مطبوعة أو مكتوبة ، وقبل خطوات من المسجد الآخر، وأثناء نداء المنادي لصلاة المغرب ، انحنى الشاب إلى الأرض ليلتقط قصاصة ورق من كتاب قديم قرأ فيها جزءاً من شرح ذلك الحكم الذي اختلف عليه التلميذ وأستاذه ، فصلى المغرب شاكرا لله كرمه عليه أن توافق الشرح في الورقة المهداة ، مع رأي التلميذ النبيه .
ثم اهتدى إلى عنوان شيخ المقارئ المصرية آنذاك الشيخ محمود الحصري ، فأرسل إليه رسالة بالغة الأدب ، جميلة الخط ، منمقة معطرة بجميل التحايا والتبجيل يسأله فيها عن تلك المسألة ومسائل أخرى حاكت في نفسه .. فرد شيخ المقارئ برسالة يؤكد فيها صحة رأي الشاب ، ويمدح فيها نباهته وحسن فهمه لهذا العلم.. فازداد شغف الرجل بعلم تجويد القرآن الكريم ، وأبحر فيه يتمحصه ، ويدرسه على نفسه حتى تشرّبه… تمنعه حساسيته وحياؤه من أن يصطدم ثانية مع معلمي التجويد – على قلتهم آنذاك – وآثر أن يرسل رسالة باسم مجهول لأحد أساتذة التجويد ، حتى لا يحرجه ، يشير فيها إلى مجموعة من الأحكام التي استدرك أن الأستاذ يخطئ فيها . ثم ما عاد إلى مجلسه ثانية أبدا…. ذلك في الوقت الذي رأى فيه الكثير من أقرانه القدرة على أن يعقد جلسة للتعليم ، فتردد حتى ألزموه ، والتزموا معه ناهلين منه علمه بأسلوبه الذي كان انقلابا على أسلوب مشايخ عصره.. وكان ذلك تقريبا في العام (1950) في المسجد الذي ذرفت فيه دموع فرحته بانتصار رأيه .. في مسجد النصر ..
وانطلق المعلم الصغير في المدينة مع انطلاق فكرة طباعة ما جمعه عن هذا العلم ، فنمّقه في كراس مرتب وخط واضح جدا وجميل، وأبرده إلى الشيخ محمود الحصري في مصر ليعطيه رأيه فيما سماه (رسالة في أحكام تجويد القرآن على رواية حفص بن سليمان ) ، وما أسرع أن جاء الرد بتقريظٍ شرحَ قلب الرجل وأسعده ، وشجعه على طباعته ، وصدّره بكلمةِ تقريظِ شيخ المقارئ المصرية … وما أسرع أن تهافت على كُتيبه الدارسون والمتعطشون لشرح مبسط وواضح وجدوه في كتاب المعلم الشاب الشيخ محمد سعيد محمد علي ملحس .. وما أسهل عندئذٍ أن حصل على وظيفة جزئية كمعلم غير متفرغ في الفترة الليلية بالمعهد الديني التابع لجمعية التضامن الخيرية بنابلس…
وطار صيت الكتاب وصاحبه في الآفاق ، حتى أوصله المهتمون من تلامذته إلى ( السيد رفيق شاكر النتشة ) الفلسطيني (المعروف) الذي كان يشغل (منصب مدير مكتب وزير المعارف في قطر) وكان له نفوذ ومكانة عند وزير المعارف القطري الشيخ قاسم بن حمد ، والذي أقر تدريس الكتاب في المدارس هناك ، بعد إقرار طباعته الطبعة الثانية التي صدرت في قطر عام 1958، و بعد انتشار الكتاب هناك بعدة سنوات أرسل إليه السيد النتشة عرضا بالسفر إلى قطر ( قبلةِ الباحثين عن العمل والثروة في تلك الفترة ) ليعمل بهذا العلم في مدارسها .. غير أنه امتنع عن هذا العرض المُغري بتفاصيله المرسلة ، والتي يسيل لها لعاب الشباب في مثل سنه .. امتنع عن السفر لأمور منها شيخوخة أمه التي سافر كل أبنائها عنها ، وحبه لتلامذته رغم أنهم شجعوه .. ثم ما لبث أن حسم الأمر بالامتناع عن السفر بسبب أمرين أمرّين الأول هو حياؤه من عبارة قالها له صاحب محل البقالة التي يعمل فيها: ( بعد ما صرت زي ولادي بتفكر تتركني وتسافر، لمين بدك تترك المحل؟؟)….. أما الأمر الثاني فهو نشوب حرب عام (1967) التي شلّت كل تفكيرٍ حتى عن الحياة العادية..
ثم ما لبث أن اشتد إقبال الناس كبارا وصغارا على القرآن وعلم تجويده ، وكانت قبلتهم لذلك العلم بعد نكسة 67 هو المسجد الحنبلي الذي سعى له فضيلة ( الشيخ راضي الحنبلي ) رحمه الله ليتوظف فيه إماما بتاريخ 24/3/1968 ..
****
وأقبل الدارسون لعلم التجويد على الشيخ أو على كتابه… وقد كانت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في مصر عام 1953، ثم الثانية كما ورد أعلاه في مطابع قطر الوطنية / الدوحة عام 1958 ، ثم الطبعة الثالثة في السودان عام 1969 في كلية الشريعة بجامعة أم درمان الإسلامية ، حيث درس طلابها الكتاب على مدى أعوام عديدة،…. وكل ذلك كان دون مقابل مادي ، غير أن كل الجهات المذكورة قد تكفلت بمصاريف الطباعة ..
وما لبث أن كان الكتيب بين يدي الناس في بقاع واسعة من الأرض بعد أن تم اعتماده مرجعا دراسيا في عدد من الجامعات والمدارس العربية ، ثم لاحقا محليا في جامعة النجاح بنابلس وفي مدارس ومعاهد فلسطين بقسميها المحتلين عام 48 و عام 67 ،…
ثم يمّم الرجل العالم بعلمه شطر باقة الغربية في مناطق ال48 ليعقد مجلس علم أسبوعي على مدار ( 20 سنة ) تقريبا حيث أقام القائمون على تنظيم الدورة هناك في ما صار يُعرف بكلية الشريعة الإسلامية ، فـعُـيـّن مدرسا فيها إلى أن منعه الاحتلال مع جميع الفلسطينيين جميعا من دخول مناطق الخط الأخضر خلال الانتفاضة الأولى ، غير أنه كان قد درّس أيضا في كلية الشريعة بقلقيلية وفي المدرسة الإسلامية بنابلس ‘ إضافة إلى الدورات التي اعتمدتها دائرة الأوقاف (التي كانت مازالت تابعة للحكومة الأردنية رغم فك الإرتباط) ، وسعى الشيخ الذي تجاوز عدد الدارسين على يديه بضعة آلاف ، أو يزيد – سعى إلى استصدار شهادة مصدّقة لكل خريج يتقدم لامتحانين شفوي وكتابي يدرسونه من كتابه بشرط الأوقاف ، وهكذا كان كما اقترح وأراد . ثم انتشرت دور القرآن الكريم في جميع أنحاء الضفة الغربية ، وكانت جميعا تعتمد التدريس من كتاب الشيخ محمد سعيد ملحس ، وتم تمكين طلابها جميعا من فرصة أداء الامتحان للحصول على ( إجازة ) في علم التجويد، وكان الشيخ مُعتَمَدا في جميع لجان الامتحان الشفوي ، والمعتَمد كذلك لكتابة أسئلة الامتحان الكتابي .. ثم تم تطوير نظام الدراسة في هذه الدور ليكون الخريج منها قادرا على تعليم هذا العلم بعد مواظبته على ثلاث سنوات من الدراسة ، وكان يمكن لأي طالب أن يلتحق بهذه الدورات مهما كان تحصيله العلمي أو مبلغه العمري ، فاجتمع بين يدي الشيخ في الدورة الواحدة ابنُ عشرٍ ، وابن التسعين وطالبُ المدرسة والجامعة والأستاذ فيهما ، جنبا إلى جنب حتى مع أميين أو شبه أميين ، ومثل ذلك من النساء ، وما كان لهن أن يدرسن علم التجويد خارج نطاق المدرسة والجامعة إلا على يديه .. وأصبح الشيخ مرجعا في هذا العلم ، وبلغت عدد طبعات كتابه حتى الآن إلى ( 18 ) طبعة ، تعرضت إلى السرقة الحقوقية من قبل قراصنة الكتب ، وكان رده دائما أنه ما دام يستفيد منه المتعلمون فليسرقه السارقون وحسابي وحسابهم عند الله ، وما أنا إلا خادم لهذا العلم لا أسعى إلى الثراء منه ، ولو أردت أن أتاجر به لبنيت ثروة طائلة من بيع مئات ألوف النسخ التي كانت بين يدي الناس في أماكن متفرقة من العالم ..
وشعر الشيخ أنه يعيش للقرآن وخدمته ، فبذل له ذوب روحه ، وأعطاه من وقته وراحته وجهده وحياته ما لم يعط شيئا آخر سواه … وما قصّر يوما عن دعوةٍ لرجل دعاه أن يأتيَ إليه أو أن يؤتى ، ليجيبه عن مسألة أو يفحص له قراءته ، أو أن يخصه مع جميع أفراد عائلته بدروس (خصوصية) لا أجرة فيها إلا ما يكيله المستفيد منه من دعاء خالص بعد الأجر المأمول عند ذي العرش الكريم …
وكان الشيخ قد أعفى نفسه من العمل في محل البقالة- في وقت متأخر- بعد أن عفّ عن ملاحقة ورثة صاحب المحل، للمطالبة بمكافئة نهاية الخدمة التي يستحقها قانونا .. وكان ذلك من باب الوفاء لمن (اكتنفه برعايته منذ أن عمل عنده وهو فتى صغير)
وأمضى الشيخ جُلّ وقته بعد ذلك ينقح في مؤلفه ويصدرها طبعة بعد طبعة مع كل مطلع عام دراسي ومع بداية موسم دورات التجويد ..
ثم أتاح له الوقت الموفور لخدمة كتاب الله أن يجتمع مع أهل الرأي والرؤية وأهل الخبرة لبحث إمكانية إنشاء محطةٍ للقرآن الكريم تكون وقفا لله تعالى … وإذا بالفكرة تغدو بذرة طيبة أصلها في الأرض وفرعها في السماء..
وربما كان الظن في البداية أنها إذاعة يخصصها الشيخ لنفسه كي يسمعَ فيها صوتـَه ، ويذيع للناس فنون قراءته.. ولكن الناس لم يسمعوا صوته فيها إلا مـُفتتحا بثـَّها الأول بتاريخ 5/8/1998 وكذلك مهنئا في المناسبات، تاركا أثير الإذاعة غير الربحية لتبث الدروس والمحاضرات الدعوية لكل من ارْتـُضِيَ دينُه ، أو اعتدل فكرُه ومنطقه ، ولكي تبث أيضا تلاوات المقرئين من كل العالم الإسلامي باستثنائه؛ كي لا تكون إذاعة شخصية.. ثم أنه لم يسمح لنفسه أن يستفيد منها ولو بمثقال درهم ، مدّخرا أجره عند الله خيرا يراه يوم القيامة..
ويأبى الله تعالى إلا أن يعجـّل له ببعض أجره في حياته ؛ فهيأ لوزارة الأوقاف الفلسطينية الشيخ الدكتور (يوسف جمعة سلامة ) وزيرا نشيطا سعى إلى تكريم الشيخ ، مما ترك أثرا عظيما في نفسه بأن منحه درجة وظيفية فخرية بمسمى (مدير عام قراء شمال فلسطين) في حفل مهيب كان الوزير على رأسه ، وكأن مدير الأوقاف اللماح آنذاك الأستاذ زهير الدبعي أحد تلامذة الشيخ في التجويد قد أراد أن يعطي المناسبة معنى حميما يتلمسه الناس بين الثنايا ؛ فقد جعل الحفل في جامع النصر الذي كان جامعة ً ومنبرا طوال سنوات لنشر علم التجويد على يدي شيخه ومرجعه ، الشيخ محمد سعيد ملحس … الذي شاخ في العام الأخير من حياته عن الدنيا وما فيها ، ولكن ما شاخ عن الصلاة واقفا غير قاعد مفتخرا بذلك، وما يفتأ يحمد الله أنه بلغه التسعين ولم يـُصلّ قاعدا .. وكذلك ما شاخ عن الذكر والتلاوة ولو بصوت أضعفَ الزمنُ نبرتـَه ، ولكنه لم يضعف تطبيقه لأحكام التجويد…
وذلك الى ان توفي رحمه الله قبيل الزوال من يوم الجمعة، في 23( ذو القَعدة ) 1437 هـ، الموافق 26/ آب 08/ 2016م.
تصنيفات : العلماء المعاصرون, علماء فلسطين