الأستاذ بسام جرار
أكاديمي وباحث في القرآن الكريم
يقول سبحانه وتعالى:
” أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا. وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ؛ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ ْالأَمْثَالَ”.
هذه آية من سورة الرعد، وهي كما جاء في خاتمتها:” كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ”: وتُضرب الأمثال للتبيين والتوضيح وتقريب المعاني وتجلية الحِكم. وهنا الكلام عن ثبات الحق واستمراره في مقابلة الباطل الذي حقيقته الزوال والتلاشي:” كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ”.
المثال الأول: نزول ماء من السماء بقدر مناسب فتسيل الأودية ويجري فيها الماء، فينتج عن هذه الحركة الزبد (رغوة) ويتزايد ويتراكم على جوانب الوادي، فإذا بالماء في نهاية المسيرة صافياً زلالا، قد طرح بعيداً كل ما علق به من شوائب خالطته.
واليوم نجد الأمة في مسيرتها تواجه التحديات وتعاني من انتفاش الباطل، ونجد قطاعات واسعة من أبنائها تذهل عن الحكمة في تأخر الوصول إلى الأهداف والمقاصد، ونجد الكثيرين يتذمرون من طول المسيرة ولا يرون النهاية المرجوة.
أما المراقب صاحب البصر والبصيرة فيدرك أنّ طول المسيرة يؤدي إلى تراكم الزبد ونفي الخبث الذي لم تكن تراه العيون، ولم تكن تلمسه الحواس، ولم تكن تدركه العقول.
ولو رجع الواحد فينا في ذاكرته عشرات السنين، ثمّ نظر لوجد أنّ إدراكه للأمور وللوقائع والأحداث والدول والجماعات والأفراد … قد اختلف كثيراً؛ فكم من أفكار سادت والآن تبيد من عقول الناس؟ وكم من جماعات سقطت من العيون بعد أن كانت ملء السمع والبصر؟ وكم من قيادات في عالم الفكر والسياسة تهاوت فنبذها الناس؟ وكم من أفراد حولك تساقطوا تساقط أوراق الخريف؟ وكم؟ وكم؟!!
كلّ ذلك تحصّل نتيجة طول المسيرة، فتراكم الزبد واتضحت الرؤية، وأصبح الناس على بصيرة من أمرهم. وهذا مقدمة ضروريّة لإحداث تغيير إيجابي حقيقي وجوهري.
المثال الثاني: وهناك زبد مثله ينتج عن شدّة الحرارة التي تصهر المواد فيتحصّل لدى الناس النفيس من المعادن وتُطرح الشوائب بعيداً لأنّها لا تنفع الناس.
وكذلك الشدائد التي تواجهها الأمّة اليوم، فهي تصهر وتمايز، فتكون النهاية انتصار الحق والحقيقة وزوال الباطل المنتفش والمنتفخ والذي حقيقته الزوال وعدم قابلية الاستمرار، وهو نقيض منفعة الناس. والآية الكريمة تُصرّح أنّ ما ينفع الناس هو الذي يدوم ويستقرّ، وهذه سنّة من سنن الله في المجتمعات البشريّة. وما ينفع الناس يكون في عالم الفكر، والعقيدة، والشريعة، والعادات والتقاليد،… ويكون في عالم المادة…إلخ.
فالتحديات التي تواجه الأمّة تصعّد الوعي، والشدائد تُخرج أفضل ما في الإنسان من طاقات. ولا بد بعد ذلك كله أن يثمر واقعاً جديداً يخرج من رحم هذه الشدائد وتلك التحديات.
فلدينا هنا سنة (قانون) الحركة وجري الواقع البشري، وسنة الكدح والتدافع ومواجهة التحديات. والذين يظنون أنّ سيطرة أهل الباطل أصبحت حقيقة لا يمكن زوالها ينقصهم الوعي بسنن الله في المجتمعات البشريّة، ثمّ هم لا يدرسون ولا ينظرون ولا يراقبون ليلاحظوا حركة المجتمعات صعوداً وهبوطاً، وتقدماً وتراجعاً، وبقاءً وزوالا… كلّ ذلك مرهون بالانسجام مع الحق؛ فما كان أقرب للحق يكون أقرب إلى الثبات والرسوخ والدوام.
تصنيفات : قضايا و مقالات