يرفض أصحاب النّفوس العظيمة الشعور بالمذلّة، ويأبى الرّجال الكبار الذين تطاول همّتهم قمم الجبال الرواسي الخضوع، والقبول بالواقع الرديء، حتى وإن كان ثمن ذلك المواجهة لجمع كبير من الأعداء الأشرار، والتمرّد على صعوبة الحال، ويكون ذلك من خلال المبادرة الذاتية، ونفض غبار الخوف، والنهوض من بين الرّكام، وكسر القيود، إنّها إرادة التمرّد على الواقع المعقّد، فيأبي الأبطال الخضوع، ويرفضون حياة العبيد.
وقد وصف النبي_صلى الله عليه وسلم_ واحداً من هؤلاء الرّجال العمالقة بأنّه: “وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ”[صحيح البخاري]، فمن هو هذا الصحابي الذي علّق الجرس، وقلب الطّاولة، وغيّر المعادلة، ووجّه مسار الأحداث من جديد؟!
إنّه الصّحابي الجليل: عتبة بن أسد “أبو بصير”، الّذي أسلم في مكة، ثم هاجر إلى المدينة بعد صلح الحديبية التي كان من شروطها أنّ على النبي صلى الله عليه وسلم ردّ كل من جاء من مكّة مسلماً، وقد أغضبت موافقة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الشّرط جموع الصحابة الذين لم تنشرح صدورهم لأغلب ما جاء في بنود صلح الحديبية، ورأوا في ذلك إجحافاً بحق المسلمين.
وصل الصحابي الجليل أبو بصير إلى المدينة بعد صلح الحديبية، فأرسلت قريش رجلان تطالب بعودته إلى مكة بموجب بنود الصلح، فاستلماه يقتادانه إلى مكة، وفي الطريق قتل أحدهما، وهرب الآخر مذعوراً، ثم اتّجه أبو بصير إلى طريق استراتيجي، وبدأ يجمع حوله من تشابه حالهم بحاله من الفارّين بدينهم من مكّة، وكان منهم الصحابي الجليل “أبو جندل” المعروف ببطولته، وصلابته.
أقام أبو بصير ومن معه في مكان يسمّى “العيص”، والّذي يعتبر شريان حياة لقريش، فهو درب تجارتها إلى الشّام، وخاض معهم ما يسمّى بأيّامنا (حرب عصابات)، وكانت قوات النخبة التي شكّلها تعترض قوافلهم، وتنّكل بهم، فأذاقهم الويل، لكثرة ما أغار عليهم، و قتل منهم، وصادر من أمتعتهم وأموالهم، وقد ضجّت قريش من تهديدهم الاستراتيجي، فأرسلت وفدها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، تنشده الله والرحم، بعد أن رفضت الكتابة في الصلح سابقاً “الرحمن الرحيم” بعد بسم الله، وتنكّرت لصلة الرّحم، وطلبت منه أن يلغي من بنود المعاهدة ذلك البند الذي يلزم المسلمين بردّ أبناء قريش، الذين يسلمون، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفد قريش المطالب بإلغاء البند كتابا إلى أبي بصير وأصحابه، يبشّرهم بفرج الله عليهم، ويدعوهم للقدوم إليه، لكنّ أبا بصير كان على فراش الموت، فأخذ كتاب رسول الله وقبله، وبكى، وقال: “أقرأوا منّي السلام على رسول الله”، وفاضت روحه ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم على صدره.
فكان أبو بصير مثالاً للبطولة، والرجولة، فقد استطاع من خلال “العمليات الفرديّة” التي شنّها أن يتحول من مُضطهد إلى حرّ، ومن مُحاصَر إلى محاصِر، وكان لفكره الوقاد دور أساسي في هزيمة قريش، وتغيير المعادلة، وقد كان بوسعه رضي الله عنه أن يعود إلى مكّة دون أن يحتمل أي إثم ديني، أو أعباء دنيوية.
رضي الله عنه، وعن أبي جندل، وعن الصحابة أجمعين، آمين.
تصنيفات : قضايا و مقالات