إلى فرسان المنابر، د. عيد محمد دحادحة
يونيو 21, 2022
للمشاركة :

  خطبة الجمعة ميدان فروسية، تركض فيه خيول العطاء الفكري، وتحلّق في سمائه الدفقات العاطفية، وترفرف حوله الرسالة البهية التي يودّ فرسان المنابر غرسها في الجنان والوجدان.

    فكان لزاماً على فارسها:  أن يراعي براعة الاستهلال، وألمعية الإقفال، ليستحوذ على عالم الوعي واللاوعي عند المخاطبين، فتأوي إليه عقولهم، وتهوي تجاهه أفئدتهم، وتستقرّ الفكرة في نفوسهم دونما غبش ولا ضباب.

  وتلك مهمة شاقة شيّبت جهابذة الفصاحة من قبل، فها هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان يقول ” شيبني صعود المنابر ” كيف لا؟! وهو يعرض عقله على الناس كل جمعة، ويضع بضاعته الفكرية بين أيديهم، دونما شائبة من لبس فكري، ولا خلل شرعي، ولا تقمص لأقمصة الملل والسآمة، إنما ترسيخ فكرة، واستجاشة مشاعر، وتأسيس لتقويم سلوك، لتبقى الفكرة متوهجة في نفوسهم، ما لها في عالم السآمة والملل من مقيل ولا مبيت، بل عساها تكون لديهم بضاعة متقبلة لا مزجاة.

  يا فارس المنابر: مهمّتك أن تسبي الألباب، وتشدّ العقول، وتلفت الوعي، وتغلف الفكرة بعاطفة، وتوشّح العاطفة بفكرة، لتنضج الرسالة، وتتمّ على أحسن وجه وأتمه وأكمله بتأصيل وأصالة، ولا يتمّ ذلك إلا بمعالجتك الواقع، بواقعية شرعية، وألمعية فكرية، منسوجة بعبارات فصيحة بليغة، مصونة من كل لحن لغوي، أو ذبول لفظي، فقوة المعنى من قوّة المبنى، بها تتزيّا الخطبة.

يا فارس المنبر: يخرجُ الكلامُ وعليه كِسوةُ القلبِ الذي خرج منه! فـشتـانَ  بين حِلية نـزدانُ بها،  وأخرى تَشينُ صاحبَها، وما يزين الكلام إلا نبتة الإخلاص التي تنبت في القلب، فبه يتجاوز الكلام الآذان ليستقرّ في الجنان والوجدان، فإنما السير سير القلب.

   وليكن منكم بحسبان: أنّ فارس المنبر لا يتلفع بالصمت عن ملابسات الواقع وضغوطاته الثقيلة، فللخطيب في الأرض المباركة فلسطين رسالة خاصة، لا يسعه أن يغفل عنها، ألا وهي أن يكون مرابطاً على الذاكرة الفلسطينية التي تبيّن حقنا الشرعي، وإرثنا التأريخي ومجدنا  الحضاريّ، يصونها لدى عموم الناس من التحريف والتبديل والتشويه، ويحرّرها من الوهم الخادع،  ويكون للناشئة والأجيال  الناصح النافع.

  على يديه تسطع شمس الحقيقة لتطوى الأباطيل، ويرمي الباطل بحجارة من سجيل، دون ملاواة ولا مواربة، ولا استكانة ولا تضليل، ينفض عن الأمّة وهم الانكسار، ويسقيها من غمائم علمه وعيَ القرون، لتبقى عزيزة شامخة لا تهون.

   فارس المنبر: يغسلُ مسامع الجمهور دوماً من صَدى الإرجافِ والتوهين، وينـفُـثُ في  أفئدتها عَزَماتٍ من  الشموخِ الإيمانيِّ واليقين.

 وليكن من خطيب الجمعة بحسبان: أنّ دوره لا ينتهي بانتهاء خطبته على المنبر، بل أن يقوم خطيباً في الناس بلحظه فضلاً عن لفظه في كل وقت وحين، وأينما حل وارتحل، فيكون  مَعينا صافياً لكلِّ وارد، والنّاصحَ الأمينَ لكلِّ قاصِد، لينتفع الناس بلفظه ولحظه على السواء.

   يا فرسان المنابر: ليكن انحيازكم إلى الحروف التي تحْيي الرجاء في نفوس الناشئة والأجيال، وتقتل اليأس فيهم والخبال.

  وليكن انحيازكم إلى الحروف: التي تبث في روع الناس الهمّة، وتذكي فيهم العمل، وتكون عدّة لهم على طريق التغيير، وزاداً يزدلف بهم إلى التحرير.

  يا فرسان المنابر: فلتكن حروف خطبكم: هتفة توقظ كل نائم، وصيحة تقضّ مضاجع كل غافل، وصرخة تدوّي في بيداء اليأس، تغيظ العدى، وتنفض عن النفوس الخنوع في البأساء والضراء وحين البأس.

 فلأن وفقنا الله تعالى فغدونا كذلك، كانت خطبة الجمعة رسالة تحترم العقول، ويسطع نجمها في النفوس بلا أُفول، عسانا عندئذ نكون قد بلّغنا الرسالة وأدينا الأمانة.

سلام على فرسان المنابر في العالمين.

تصنيفات :