القدوة وأثرها الفاعل في التربية:
د. أيمن جويلس
يذكر مؤرخو الحضارات أن الصينيين القدامى حين أرادوا العيش بأمان، بنوا سور الصين العظيم واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه، ولكن! …
خلال المائة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات! وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه …! بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس الرشوة ثم يدخلون عبر الباب.
لقد انشغل الصينيون ببناء السور ونسوا بناء الحارس…! فبناء الإنسان.. يأتي قبل بناء كل شيء، وهذا ما يحتاجه الجيل اليوم.. يقول أحد المستشرقين: إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فهناك وسائل ثلاث هي: 1. اهدم الأسرة 2. اهدم التعليم 3. إسقاط القدوات والمرجعيات.
لكي تهدم اﻷسرة: عليك بتغييب دور (اﻷم) اجعلها تخجل من وصفها بـ “ربة بيت”، ولكي تهدم التعليم: عليك بـ(المعلم) لا تجعل له أهمية في المجتمع، وقلل من مكانته حتى يحتقره طلابه، ولكي تسقط القدوات عليك بـ (العلماء) اطعن فيهم، شكك فيهم، قلل من شأنهم، حتى لا يُسمع لهم ولا يقتدي بهم أحد، فإذا اختفت (اﻷم الواعية) واختفى (المعلم المخلص) وسقطت (القدوة والمرجعية) فمن يربي النشء على القيم؟؟؟ هذا من كلام الدكتور المفكر المغربي المهدي المنجرة المختص بحوار الحضارات.
وقد صدق المفكر في تشخيصه لواقع المجتمع اليوم، فإن غياب القدوات المؤثرة الفاعلة عن الساحة أو تغييبها لأي سبب يعني حرية الحركة لمن يؤثر سلباً على الجيل ممن لا يؤتمن دينهم، ولا تؤتمن أخلاقهم من فاسدين ومفسدين، كما أن الجيل إن لم يتشرب روح الفضيلة من معين الأسرة المستقيمة ومن فيض الأخلاق المحمدية التي تظهر على سلوك والديه أو أهله أو معلمه أو أستاذه أو شيخه أو صديقه أو أعمامه أو أخواله أو جيرانه فإنه حتماً سيكون فريسة سهلة تصطاده الأيدي الماكرة من أعداء الأمة الإسلامية ومن دار في فلكهم من مرتزقة العرب فيستغلون جهله وضعفه وشهوته ليكون لهم تابعاً، وبوقاً ناعقاً، وكلباً نابحاً … هذه أخطر ثمرة لإهمال القدوة، وإغفال بناء القدوات في البيت أو المدرسة أو الجامعة أو الحي، ولا أبالغ إن قلت: إن أكبر خطر على الشباب اليوم غياب القدوات، ولهذا قيل : [ قل لي: من قدوتك أقل لك من أنت]!!
وعلى صعيد آخر فإن دور القدوة الصالحة المصلحة حتماً أن ينهض بالأمة، فكلما ازدادت القدوات سادت الفضيلة وانتشر العلم واختفت المنكرات، المجتمع وخاصة الشباب يحتاج إلى قدوات يدعون الناس بأفعالهم لا بأقوالهم، بسلوكهم ونقائهم لا بشعارتهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
القدوة تمثل للشباب والأبناء المثل الأعلى، فيعملون على متابعته وتطبيق نهجه حباً وتوقيراً وقناعة وإيماناً بأنه النموذج الذي يستحق الاقتداء، ولهذا أوصى أحد السلف معلم ولده قائلاً: “ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت”.
اليوم نحتاج لقدوات للجيل في المثابرة والجد والاجتهاد وطلب المعالي والتسامح والعفو والرحمة بالمؤمنين والغلظة على أعداء الدين، والثبات على الحق، والتضحية في سبيل المبادئ، والتناصح وأدب الحوار والانضباط، واحترام الكرامة الإنسانية، وتقدير الآخرين وتقبل وجهات النظر، وتقدير المواهب والكفاءات، ومحاسبة الفاسدين ونصرة المظلومين، وإغاثة الملهوف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسابقة في الطاعات، والعمل للآخرة …. هذه السلوكيات والقيم والممارسات يجب أن تكون حاضرة فيمن يربي الجيل، يجب أن تتجلى في مواقف وسلوكيات الآباء والأمهات والأساتذة والدعاة والعلماء والخطباء والوجهاء وقادة العشائر والفصائل والمصلحين؛ حتى لا يصدم الجيل بواقع غير الذي يقرأه في الكتب فيحدث الشرخ الذي ندفع ثمنه اختلالاً في المفاهيم والموازين، وضياعاً في المواقف.
ومما يدل على دور القدوة في التأثير في الناس ما وقع في يوم الحديبية، ففي صحيح البخاري قال عمر : ( فلما فَرغ من قضية الكتاب أي: بنود الصلح قال رسول الله r لأصحابه: (قوموا، فانحروا ثم احلقوا) ، قال: فوالله، ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يا نبيّ الله، أتحبّ ذلك؟ اخرُج لا تكلّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا).
ولما للقدوة من تأثير كبير كان من دعاء عباد الرحمن أن يكونوا قدوة للمتقين يقول الله تعالى} وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا{[الفرقان].
ولما كان المقتدي يسعى لتحصيل الكمال من الصفات كان أعظم قدوة في الإسلام نبيُّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم}لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) {الأحزاب.
أبناؤنا أمَانَةٌ فِي أعنَاقِنَا، يَجِبُ عليْنَا أنْ نَكُونَ لَهُمْ خيرَ قُدْوَةٍ، وأحْسَنَ مِثَالٍ، كم يؤلم حين يكون الأب مثلاً سيئاً في السلوك والخلق أو الأم، كيف يمكن أن يؤثر وفاقد الشيء لا يعطيه، والبيت المظلم لا يعطي جاره الضوء، “والنَّاسُ كمَا يقُولُ الإمَامُ الغَزَالِيُّ: لاَ يَتَعَلَّمُونَ بآذَانِهِمْ بلْ بِعُيُونِهِمْ”، فالأمُّ التي تُلْقِي على ولدِهَا عَشَراتِ الدُّرُوسِ فِي الصِّدقِ ثمَّ تَكذِبُ علَى أبيهِ أَمَامَهُ مَرَّةً واحِدَةً ليسَتْ جَدِيرةً أنْ تُعَلِّمَ ابنَهَا شَيئاً.
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا ♦♦♦ عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ.
وقال الشاعر أيضا:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتِ بمِثْلِهِ عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عَظيمُ
تصنيفات : قضايا و مقالات