الاستمساك بالأصول في زمان الفتن، للدكتور رامي سلهب
سبتمبر 5, 2022
للمشاركة :

الاستمساك بالأصول في زمان الفتن

د. رامي «محمّد جبرين» سلهب

كثيرة هي الفتن في زماننا الحاضر، فمنها تلك الفتن الداخلية في البلد الواحد، أو الفتن الخارجية بين بلاد المسلمين أو بين بلاد المسلمين وبلاد الكافرين، ومنها تلك التي جاء بها أعداؤنا، وتلك التي يفتعلها إخواننا، ومنها ما يمَسّ الجانب التعليميّ، ومنها ما يمَسّ الجانبَ الأخلاقي، وهكذا هي الفتَن تتكاثر يوما فيومًا حتى باتت كقطع الليل المظلم كما أخبر الصاد المصدوق عليه الصلاة والسلام.

وإنّ من أخطر أنواع الفتن ما يفرّق الجمع، ويشتّت الكلمة، ويجعل من الرأي والموقف الواحد مواقف وآراء متعارضة، يسعى البعضُ للاستعلاء برأيه، وفرضِ وجهة نظره واجتهاده على الآخرين. فإذا وصلت هذه الفُرقة إلى تفاصيل الحياة اليومية ولا سيما في المسائل الشرعية التفصيلية فهي نذير شؤم وبوّابة شتات وخصام قد لا يُمكن تداركه، ولا الوقوف معه عند حدّ معقول.

وإذا كان اختلاف الفقهاء رحمةً بالمسلمين كما يقرِّر العلماءُ المحققون، فإنّ بعض دعاة اليوم ممن قصُرت أنظارُهم، واعتلّت قرائحُهم الفقهية قد جعلوا من هذه المنحة محنة، ومن باب التآلف بابًا للتخالف، فأخذوا يتعمدون آراء بعض العلماء الذين لا تُعرف آراؤهم في ذلك البلد، ليس لأنّ الرأي القديم يخالف الشريعة، وليس لأن الرأي الجديد هو عين الحقيقة، بل لمجرّد حبّ الظهور، أو التعالم على عوامّ الناس، أو لأنه الرأي الوحيد الذي يعرفه هذا الداعية إلى الفتنة من حيث لا يدري.

ولون آخر من ألوان هذه الفتنة التي نعيش وهي ما يحاوله البعض من التفصيل في دقائق الفروع الفقهية التي لا يطلع عليها غالبا إلا العلماء، والتي هي محل اختلاف الفقهاء، في الوقت الذي يترك فيها هؤلاء التركيز والتأكيد والتشديد على الأصول التي هي محل الإجماع، والمسائل التي كانت ولا تزال محل الاجتماع، فيتناول بعضهم سنن الصلاة في مجتمع فيه المئات لا يصلّون الفرائض، ويتناول آخر بعض المكروهات في بلد انتشرت فيه ألوان الكبائر.

إنّ من المقرر أنّ الواجب هو الانشغال في بناء الأمّة ونشر الدعوة الإسلاميّة بالأهمّ قبل المهم، وبالأصول قبل الفروع، وبالمتفق عليه قبل المختلف فيه، وهو ما ظهر جليّا في بداية الإسلام من حيثُ التركيز أوّلا على إخلاص التوحيد، وتقرير العبادات الكبرى من الصلاة والصيام والزكاة والحج، وترك المنكرات وكبائر الذنوب، حتى إذا استقرّت هذه القواعد في النفوس، وأنِست بها القلوبُ، جاء الحديثُ عن النوافل بطلبها، وصغائر الذنوب بالنهي عنها.

وانظر إلى هذا الحديث الشريف الذي يرويه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحَيهما، عن ‌أبي سُهيل، عن ‌أبيه أنه سمع طلحةَ بن عبيد الله يقول: «جاء رجُل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دَويَّ صَوته، ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال: لا، إلا أن تطوّع، وذكر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الزكاةَ، فقال: ‌هل ‌عليَّ ‌غيرُها؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، قال: فأدبر الرجُل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق».

نعم، قد يقبل من بعض المسلمين في ظروف استثنائية، زمانية أو مكانية، وكمظهر من مظاهر رفع الحرج، وتشريع الرُّخصة الشرعية بشروطها أن يتركَ المسلم بعض المشروعات، مع محافظته على أصول العبادات، وزماننا وأحوالنا ودعاتنا أولى الناس بمراعاة ذلك، فلا نحمِل الناسَ على الدِّين جملةً، فيتركوه جملةً، ولا نتقعّر في الفروع ونحن نعلم أن الناس تجهل الأصول.

قال الإمامُ النووي رحمه الله: «ويحتمل أنه أراد أنه لا يصلّي النافلة مع أنه لا يخلّ بشيء من الفرائض، وهذا مفلح بلا شكّ، وإن كانت مواظبتُه على ترك السنن مذمومةً، وتُردّ بها الشهادة، إلا أنه ليس بعاصٍ، بل هو مفلح ناجٍ، والله أعلم».

فواجب على الدعاة إلى الله في هذا الزمان أن يعرفوا ويحدِّدوا أولوياتهم، ويحذَروا أن تكون الدعوة إلى بعض النوافل سببًا في تضييع واحدة من أعظم الفرائض وهي وحدة المسلمين، واجتماع كلمتهم، وسلامة قلوبهم، فإن عدوَّنا متربّص بنا، يسعى لشتاتنا، ويفرح باختلافنا، فلنكن على دراية بما يحيط بنا، ويُمكر بنا، والله وحدَه هو الموفِّق للفلاح، ونسأله أن يعجّل للأمة بالنجاح، والحمدُ لله، والصلاةُ السلام على سيّدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

تصنيفات :