الفن الشعبي بين الابتذال والالتزام.
- نواف العامر . إعلامي وناقد.
الفن لغة إنسانية عالمية تمتد جذورها امتداد الحياة البشرية عبر العصور، وتعبر في ذات الوقت عن توجهات الأمم والشعوب في سياقات إنسانية وفنية، وتعد دلالة عن الرقي الحضاري من جهة ومن جهة النقد الواضح أو المبطن لواقع الحياة .
ودرجت الأمم على توثيق أنماط الفنون الشعبية وتجلياتها بالصورة والشارة في جداريات منحوتة أو نصوص مكتوبة ما لبثت البشرية أن انتقلت نقلة نوعية مع التقدم التقني والحضاري وآليات توثيق هذا الفن بما له وعليه .
والفن الشعبي الفلسطيني واحد من محركات الفن الشعبي العالمي إن لم نقل أنه من أكثرها غنى وتنوع في سياقات الأداء والتعبير، ولو لم يكن كذلك لما تعرض لسرقة مبرمجة من مغنين وفنانين صهاينة في كيان الاحتلال ومنهم حاييم موشيه وغيره .
وتعرض الفن الشعبي الفلسطيني لموجات من التغريب والتقليد منها ما هو مبرمج لتمييعه وتذويبه ومنها ما هو تقليدي بحت ويصب كلاهما في سياق التضييع لهذا التراث الحضاري العنيد .
منذ البدايات الأولى للثورة الفلسطينية في مواجهة بريطانيا واليهود وقف نوح إبراهيم يؤلف وينشد لتعبئة الوعي الوطني والمقاومة مخلدا شهداء ثورة البراق محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي كما خط وعيه القصيدة الزجلية المغناة المشهورة التي تسخر من المندوب السامي البريطاني مستر ديل ومطلعها :
دبرها يا مستر ديل بلكي على إيدك بتحل
وظل الغناء الشعبي واحدا من تجليات الفن الشعبي ينافح عن صور الفداء والكفاح والجهاد والرباط وجاء بعضها في سياقات الفكر الثوري أحيانا مغلفا بالروح الوطنية وأحيانا معبرا عن الفكر الماركسي الشيوعي إلى أن انطلق الفن الإسلامي محدثا التوازن كنمطية جذابة تحمل البعد الديني والإسلامي في مجتمع محافظ ملّ من تداعي الأفكار على ينبوع الصفاء في ساحاته.
الفن الإسلامي الشعبي انتصب في مواجهة الفكر الغريب والدخيل وبعض تجلياته التي لا زلت أذكرها ذات الطلعة الفنية والأغنية الملحدة وتقول :
بطلت أصلي بطلت أصوم عيني، بدي أعبد سماها (يقصد محبوبته)
عالجنة ما بدي أروح عيني، ع جنهم أنا وإياها
غناء يتجاوز الفجور في محاولات فاشلة لتثبيت الإلحاد ضد الإيمان وضد الإسلام والمجتمع المحافظ.
وذات مرة كنت عريفا لحفل زفاف في بلدة فلسطينية جنوب نابلس تعرضت تلالها وأراضيها للنهب والتهويد والاستيطان، وكنت في صبيحة ذلك اليوم سمعت أغنية لمغنٍ عربي يصدح صوته في ميادين نابلس وأسواقها ( أبحث عن سمراء )، وكان من ضمن ما قلته في حفل الزفاف: المغني يغني والشباب اليوم يحفظون أغنيته بينما يبحث المستوطن في التلال القريب عن قطعة أرض يسرقها ويغتصب زيتونها، وظل بعض الشباب يومها يبحثون عن سمراء بين القوافي والأغاني، ضمن مشاريع التغريب والتضييع والتخريب وإبعادهم عن كل ما يقوي علاقتهم بالوطن والمقدسات ورفض المحتلين ومواجهتهم.
وتوالت فرق النشيد والزجل الشعبي في تثبيت الهوية والحفاظ على الثوابت وعمودها القدس والأقصى، وركزت على البناء الأخلاقي وحماية النسيج المجتمعي ورفد الأجيال بقيم الوعي الخلقي وصيانة أساسيات التعليم والحض على المقاومة والدفاع عن الوطن وتقديس قيمة الشهادة والشهداء ورفض الانصهار في فخاخ الاحتلال ومشاريعه .
وفي المقابل سجل التراث والفن الشعبي الوطني الملتزم حضورا قويا وكبيرا ذا تأثير منذ انطلاقة الثورة المعاصرة التي حولت جموع اللاجئين إلى ثوار يدافعون ويدفعون عن الوطن المحتل وقيمه.
اللون الوطني بلا شك جسد مشروعه في تفاصيل الحياة اليومية وكان منها الفن الوطني الملتزم الذي تعرض لغزو جاء عقب اتفاق أوسلو وبات واحدة من أدوات الترويج للمشروع السياسي الجديد المعتمد على المفاوضات وحدها .
ويوما في أثر يوم بدأ الفن الملتزم الذي يقف خلفه الإسلامي يتجذر في واقع صعب لوثه انقسام بغيض، فن ملتزم بات يسمع صداه في أزقة القدس وحواريها ونوافذ بيوتها قبل أن يكون أغنية تتردد في المركبات وساحات الاحتفالات الاجتماعية من أفراح ونجاحات علمية أو تعليمية وتحرر أسرى .
وفي ظني أن الفن الملتزم مرشح للالتحام والاندماج كلما ترسخت روح المقاومة وثبات الرباط والمرابطين في ثقافة الأجيال ومحاضنهم التربوية بعيدا عن مؤثرات الخصومات والخلافات السياسية، لأن الفن الملتزم واحد من تجليات الثبات والرباط والحفاظ على الحقوق والثوابت والتمسك بها، ولأن الفن الملتزم بقاء والبقاء مقاومة.
تصنيفات : قضايا و مقالات