بسم الله الرحمن الرحيم
حرية الرأي منهج إسلامي أصيل
صلح الحديبية نموذجاً
د. جهاد شحادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
لقد أقام الإسلام مشروعاً حضارياً سعدت البشرية في ظلاله، ونعمت بالأمن والتقدم المرتكزين على جملة من القيم والمبادئ السامية التي رسمها القرآن الكريم والسنة النبوية، ولم يتراجع هذا المشروع إلا بعد أن تخلت الأمة الإسلامية عن هذه القيم والمبادئ التي ارتكز عليها مشروعها.
وحرية الرأي والتعبير تعد من أهم القضايا في البناء الفكري والحضاري للأمم، فلا غرو أن تكون منهجاً أصيلاً، ومبدأ أساسياً من مبادئ الإسلام، وقد برز هذا المبدأ واضحاً على امتداد سيرة النّبي صلى الله عليه وسلم، وتجلّى في صلح الحديبية في أكثر من موقف، وفي أكثر من صورة، ومن هذه المواقف والصور:
أولاً: اعتذار علي رضي الله عنه عن محو الشهادة للنّبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة عندما أمره النّبي صلى الله عليه وسلم بذلك: فقد كان علي هو من كتب وثيقة الحديبية، وعندما رفض المشركون أن يُكتب في الوثيقة “محمد رسول الله”، وقالوا: لا تكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: (امحه)، فقال علي رضي الله عنه: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده”. أخرجه البخاري ومسلم.
ومع أن علياً رضي الله عنه رفض تنفيذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك أمام المشركين، إلا أن النّبي صلى الله عليه وسلم لم يعنّفه ولم يحجر عليه رأيه، وبادر إلى تنفيذ الأمر بنفسه.
ثانياً: اعتراض عمر رضي الله عنه على صلح الحديبية: “فقد جاء إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟، قال: (بلى)، قال: أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟، قال: (بلى)، قال: ففيم نعطي الدنيّة في ديننا، ونرجع، ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (يا ابن الخطاب، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً). أخرجه البخاري ومسلم.
وقد كان لبعض الصحابة رضي الله عنهم مواقف شبيهة بموقف عمر رضي الله عنه، كما في الصحيحين.
ورغم اعتراض عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة على الصلح إلا أن النّبي صلى الله عليه وسلم، لم يغضب عليهم، أو يحجر على رأيهم، بل وكان يسمع لهم ويجيبهم على تساؤلاتهم.
ثالثاً: رفض الصحابة رضي الله عنهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحر هديهم وحلق رؤوسهم: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتابة وثيقة الحديبية قال لأصحابه: (قوموا، فانحروا، ثمّ احلقوا)، فما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: “يا نبي الله أتحب ذلك؟، اخرج، ثمّ لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك، وتدعو حالقك فيحلقك”، فخرج صلى الله عليه وسلم فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّا. أخرجه البخاري.
وهنا يبرز لنا موقفان، الأول: إن النّبي صلى الله عليه وسلم لم يتوعد الصحابة رضي الله عنهم بالعذاب والعقاب لعدم تنفيذ أوامره، ولم يمنعهم من إبداء رأيهم والتعبير عمّا يجول في خاطرهم، والثاني: هو أخذه صلى الله عليه وسلم برأي أم سلمة بما أشارت به عليه، وفي هذا تأكيد لحق المرأة في التعبير عن رأيها، بل وفي تنفيذه إن كان صوابا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تصنيفات : قضايا و مقالات