المساس بالعلماء خط أحمر
د. أيمن جويلس
لا يوجد قداسة لعالم، ولا عصمة لفقيه أو داعية، فكلهم كما قال الإمام مالك ( يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم )، ولكن حين نتكلم عن العلماء إنما نتكلم عن صفوة المجتمع وعن قادة الفكر والتأثير، نتكلم عن طائفة من البشر سخروا شبابهم وأعمارهم وطاقاتهم لطلب العلم والتأليف والتصنيف ودراسة أعمق المسائل والخوض في أدق التفاصيل، فضلاً عما يتركه طلب العلم بإخلاص في نفس العالم من مخافة الله وإدراك عظمته، وفضله، وقوته، وإبداعه، ولطفه،{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]
ولهذا فضل الله العلماء؛ لأنهم أقرب لمعرفة عظمة الله {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]
ولهذا استحق العلماء مديح ربهم وإعلاء درجتهم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }[المجادلة: 11]
العلماء الربانيّون هم ضمير الأمة الحي وقلبها النابض، هم عنوان نهضتها، ومنارة حضارتها؛ لأنهم ورثة الأنبياء، والأمناء على وحي السماء في زمن تاهت فيه البشرية، وضلّت فيه الطريق؛ لأنهم يصلحون ما أفسدته الأهواء، لأنهم يجاهدون بعلمهم وفكرهم وحجتهم وحكمتهم شبهات شياطين الإنس والجن؛ لأنهم يقوّمون اعوجاج الناس، يرشدون حائرهم، يهدون ضالّهم، يعلمون جاهلهم، يبلسمون جراحهم، لأنهم البوصلة في زمن التيه، والنور في زمن العتمة، والعزة والشموخ في زمن الذل والاستسلام.
العلماء الربّانيون أولئك الذين عرفوا الله فانجلت لهم الحقائق الكونية والدينية والشرعية؛ وتكشفت أمامهم مجاهيل الكون، وغوامض الأمور؛ وذلك بفضل ما آتاهم الله من علم ومعرفة وبصيرة، فالعلماء بوصلة الأمة، وطوق نجاتها من الانحراف والضياع والتيه والغرق في { بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور: 40]
أولئك العلماء قد وهبهم الله من الحكمة والعلم والصلاح فكانوا ربّانيين؛ فأبصروا الحقائق، وأدركوا الغايات، وعرفوا ميزان الفرقان بين الحق والباطل، بين الهداية والضلالة، بين الحلال والحرام، بين البراهين والأساطير، بين الأدلة والخرافات، فكانوا بحق ملاذ المجتمعات الآمن بعد الأنبياء، وكانوا بحق الأمناء على رسالة السماء؛ ولهذا كانوا هم أولياء الله تعالى، ولهذا يجب التأدب معهم واحترامهم وعدم همزهم أو لمزهم أو إيذائهم أو التنقيص من قدرهم،
قال عكرمة رضي الله عنه: ( إياكم أن تؤذوا أحداً من العلماء، فإن من آذى عالماً فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
العلماء هم حماة الدين وحراس العقيدة، فعن جماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – منهم علي بن أبي طالب ومعاذ وابن عمر وغيرهم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”، ولهذا أدرك السلف دور العلماء في حياة الأمة، قال هلال بن خباب من التابعين: ( سألت سعيد بن جبير؛ قلت: يا أبا عبد الله ما علامة هلاك الناس؛ قال: إذا هلك علماؤهم) .
والواجب الشرعي على المسلم وخاصة في زمن استهداف العلماء من أعداء الأمة ومنافقيها أن يذبّ عن عرضهم، وأن يكرم من أكرمهم الله تعالى، فيوقرهم ويحترمهم ويصون كرامتهم، ويدفع عنهم قالة السوء، ويلبي نداءهم، ويجب على كل مسلم أن يتأدب معهم أشد الأدب، ومن هذه المواقف عن الحسن قال: ( رئي ابن عباس يأخذ بركاب أبي بن كعب فقيل له: أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذ بركاب رجل من الأنصار؟! فقال: إنه ينبغي للحبر أن يعظم ويشرف). وعن الشعبي قال: أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت فقال: أتمسك لي وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: ( إنا هكذا نصنع بالعلماء) .
ونظراً لأثر العلماء ودورهم المحوري في نهضة الأمة وقيادتها لمواجهة الفاسدين والمفسدين والمستبدين وأعداء الدين والسيداويين والعلمانيين والمطبعين مع أعداء الأمة ودعاة الشذوذ والانحلال الأخلاقي سعى أولئك المجرمون للنيل من العلماء لزعزعة ثقة الجيل بهم فهم لا يدعون فرصة للطعن بالعلماء إلا استغلوها ولا موقفاً إلا وحاولوا من خلاله تشويه العلماء لتموت في أعين الجيل صورتهم، وتخفت في العقول مكانتهم، ويسقط في الوجدان أثرهم، حتى إذا تكلموا لا يسمع لهم، وإن هتفوا لا مجيب لهم، هذا هو الهدف المرسوم لتشويه صورة العلماء، الهدف: إسقاط القدوات؛ ليعيش الشباب دون رموز تؤثر في وعيه وسلوكه وفهمه، بل على العكس إن ذكرت الرموز أمامه يكيل لها الشتائم ويتعامل معها بسخرية، وهذا جزء من مخطط منظم تنفق عليه الملايين، مثل: إنتاج مسلسلات وأفلام تتضمن مشاهد لعلماء يؤدون دور المتزمت اللئيم البخيل المنتفع الوصولي الانتهازي ليزرعوا في ذهن المشاهد كره هذا الشيخ أو هذا الداعية أو العالم، ومع تكرار هذه المشاهد في عدة حلقات بل في عدة مسلسلات، دون وجود إعلام وسينما بديلة تقاوم هذا الاعتداء الغاشم الآثم على العلماء، ودون وجود دور حقيقي للمساجد، وفي ظل غياب الحرية الفكرية والدعوية للأمة ستترك هذه الحملات المسعورة أثرها السلبي على الجيل .
الطعن بالرموز والنيل من مكانتهم منهج الأعداء منذ القدم فمن ذلك: ما جرى من حديث الإفك في حق الصديقة بنت الصديق، الطاهرة البتول، المبرأة من فوق سبع سماوات أم المؤمنين رضي الله عنها فقد كان هدف الإفك النيل من النبي صلى الله عليه وسلم ثم من الرجل الثاني في الإسلام أبو بكر رضي الله عنه ثم لعائشة الصديقة رضي الله عنها التي أسهمت في نقل الدين وحفظ الشريعة.
ومن ذلك : الطعن في راوية الإسلام أبي هريرة رضي الله عنه وهو أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده في صحيح البخاري باعتباره أصح كتاب بعد القرآن العظيم، ومن ذلك : الطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفهم بأوصاف لا تليق، ومن ذلك: الطعن في قادة الفتح الإسلامي والخلفاء المسلمين، وما زال من أساليبهم المسمومة اليوم: الطعن في رموز الدعوة الإسلامية ودعاتها؛ لفصل العلماء عن الجماهير والتأثير فيهم.
من واجب الأمة ودعاتها وأحرارها ومؤسساتها وأولياء الأمور وأصحاب القرار أن يتحملوا المسؤولية، فيتعاملوا مع العلماء وفق ما أمر الله ورسوله من التوقير والاحترام والالتزام بتوجيهاتهم، وعدم تقديسهم حال صدور أخطاء عنهم، وبث الوعي بين الجيل بضرورة الحذر من الأجندة المشبوهة المتمثلة بمحاولات العدو وأذنابه من أعداء الدين من خارجه، وأعداء الدين من داخله من دعاة الانحلال والفاسدين والعلمانيين ..الخ.
حفظ الله علماءنا ونفع بهم البلاد والعباد
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تصنيفات : قضايا و مقالات