في مشهد الوداع مع اقتراب الرحيل، وفي مشهد لافت، وحين كانت الآلام تمنعه من الإمامة بالمسلمين في صلاة الجماعة، خبر ما يصل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يغالب أوجاع الموت، خبر ما يأتيه فيجعله يتحامل على نفسه ويعصب رأسه الموجوع المحموم، ثم يصعد المنبر خطيبا في الناس، ويشاء الله عز وجل أن يكون هذا الصعود آخر صعود له على المنبر. فما الذي أخرجك يا سيدي صلى الله عليك وسلم؟ وماذا قلت؟ نترك البخاري في صحيحه يروي لنا الخبر عن أنس بن مالك:”… مر أبو بكر، والعباس رضي الله عنهما، بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:…”[1]. أفهذا هو الخطب الجلل الذي أخرجك يا حبيب الله صلى الله عليك وسلم وأنت في تلك الحالة؟ أفدموع الأنصار يبكون خوفا أنهم ربما يفقدونك في هذا المرض؟ ألهذه الدرجة غاليةٌ عليك هي دموع الأنصار؟؟؟ يا ليتنا- إذاً- كنا تلك الدموع الغالية على قلب الحبيب !! فماذا قلت للناس حينها يا رسول الله صلى الله عليك وسلم؟ الناس الذين غيبهم عنك المرض، والمشتاقون لكلماتك تطبب بها أوجاعهم، ولنور وجهك المشرق يضيء حالك لياليهم؟ نكمل مع البخاري في حديث أنس:”… فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم”[2]. لقد كانت ست جمل مختصرات، لكنها – والله- تزن الجبال، وإذ سيكون لنا عودة لهذه الكلمات إن شاء الله، فلا يمكننا تركها قبل أن نقول: ترى أنبكي مع الأنصار فقد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ أم نبكي غبطة لهم ولمنزلتهم؟ أم نذرف الدموع على نفوس أخلدت إلى الدنيا واثاقلت إلى الأرض، بكاء الثرى ألا يصل الثريا؟؟ وفي هذه العجالة المطلة حسبنا الوقوف مع الشاهد هنا وهو وصيته صلى الله عليه وسلم بالأنصار. فيا ترى بأي شيء سكن الأنصار سويداء حبيب الحق وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم؟ وصف السماء حين تريد الثناء على أحد ما بكلمات موجزة فإنك تختار ما تظنه أجمل وأعظم صفة فيه فتثني عليه بها، وعادة ما يلقب الناس بأبرز ما فيهم من صفات. فكيف إذا كان العليم الخبير هو الذي يحدثنا عن الصفة أو الصفات التي بوأت الأنصار هذه المكانة؟ يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم:” والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” [ الحشر:9] عندما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار بداية الهجرة عرضوا عليه أن ينزلوا عن نصف نخيلهم للمهاجرين، فطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتفظوا ببساتينهم على أن يعطوهم نصف ثمرها دون أن يعملوا ذلك أنهم لا يتقنون الزراعة[3]. وإن المرء لربما يدفعه الموقف الحماسي العاطفي لفورة من البذل والعطاء والشجاعة حتى إذا ما باشر الفعل، فلربما وجد ميدان العمل غير ميدان القول، فغلبته نفسه وعاد لسابق شحها. فهل غيرت أيام البذل والعطاء نفوس الأنصار؟ دعونا نرى: نحن الآن في العام الرابع للهجرة حيث إجلاء بني النضير، وينادي النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ويخيرهم بين أن يبقى المهاجرون مشاركين لهم في دورهم ويأخذون من غنيمة بني النضير، أو أن يخرج المهاجرون من دور الأنصار مقابل انفرادهم بالغنيمة، يخيرهم بين نصف الدار أو نصف الغنيمة، فيقول الأنصار: بل يبقون في دورنا ويأخذون الغنيمة كاملة لا نشركهم فيها، فنزلت هذه الآيات[4]. ويصور لنا خالق النفوس معدنها الذي لا تغيره الأيام، ويثني عليهم سبحانه بما جبلهم عليه من فراغ نفوسهم من حظها حتى لا تجده حديث نفس بله أن تطلبه. وتمضي الأيام، وتغير الدنيا الناس، والأنصار هم الأنصار:” دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال: «إما لا، فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيصيبكم بعدي أثرة»[5]. ولنا لهذا الحديث عودة أيضا. لا إلا أن تعطي إخواننا المهاجرين مثلنا. أما أن نختص دونهم من هذه الدنيا بشيء فلا. الظاهرة الأنصارية إذاً هي فلسفة العطاء تتمثل في الذين سماهم الله عز وجل الأنصار[6]. وكان يذكر بعضهم باسمه:” قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: ” إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} [البينة: 1] قال: وسماني؟ قال: «نعم» فبكى”[7]. و ببكاء أبي بن كعب في نهاية الخاطرة، إذ كان بكاء الأنصار أولها نختم. لنواصل الحديث- إن شاء الله- لاحقا عن الظاهرة الأنصارية أو عن المدرسة الأنصارية في العطاء.
2818:22
________________________________________
[1] صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، (5/34) (3799)
[2] السابق. انتهى نص الحديث في البخاري. وكرشي وعيبتي: أي بطانتي وخاصتي. ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (7/121)
[3] ينظر: البخاري (5/32) (3782)
[4] ولم يأخذ من الغنيمة إلا اثنين أو ثلاثة فقراء من الأنصار, ولتفصيل ذلك وسبب النزول ينظر تفاسير: الطبري(23/ 283 وما بعدها)، و الكشاف للزمخشري (4/504)، و الرازي (29/508)، والقرطبي (18/23) وغيرها.
[5] البخاري: (5/33) ( 3794)
[6] الله سبحانه هو من سماهم الأنصار، ينظر البخاري (5/30) (3776)
[7] البخاري (5/36) (3809)
تصنيفات : وقفات تربوية