وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها على تماسك الأسرة، القاضي رائد سبتي
قال تعالى:” أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡیَـٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ نٍ خَیۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡیَـٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارࣲ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِی نَارِ جَهَنَّمَۗ” [التوبة:109]
الأسرة هذا الحصن المهم في المجتمع المسلم أولاها الإسلام اهتماما شديدا، فدعم أركانها وحصنها بتشريعات وتوجيهات جعلتها عصية على التفكك والانهيار، ليصعب اختراقها. هذه التشريعات الربانية تضمن صمود أي أسرة في وجه رياح الفتن العاتية إذا التزمتها منهجا وطريقا.
وفي زماننا هذا تتعرض الأسرة المسلمة لأعتى رياح الفتن؛ فتن التغريب والتجهيل والتمييع، من أجل طمس هويتها وسلخها عن قيم الإسلام العظيم ومبادئه!
ولعل أكثر ما أثر على الأسرة في هذا الزمن ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي انتشرت انتشارا بالغا، فدخلت كل بيت ووصلت كل فرد من أفراد الأسرة صغيرا كان أو كبيرا، حتى أدمنها الناس وأصبحت جزءا أساسيا من حياتهم كالماء والهواء والغذاء!
ولقد بالغ كثير من الناس في استخدامها حتى قضوا جل أوقاتهم معها، فتراهم لا يفارقون (جوالاتهم) إلا قليلا، الرجل انشغل بها عن بيته وزوجه، والزوجة انشغلت بها عن أولادها وعن واجباتها تجاه بيتها وزوجها، والأولاد انغمسوا بها حتى النخاع، فظهر الإهمال واللامبالاة والعزلة والانقطاع بين أفراد الأسرة،، ومن العجيب أنها قربت البعيد وأبعدت القريب!
ناهيك عما جرّته من وبال في كثير من الأحيان بسبب الإغراق في التفاهات والجرأة على كثير من الحرمات مما يسوق في هذه الوسائل والمواقع
إن من أخطر سلبيات هذه الوسائل أنها تمكن الفرد أن يخلو ويتواصل مع أي شخص في العالم ويدخل إلى أي موقع من مواقع الشبكة دون أن يطلع عليه أحد (سوى الله تعالى) . جعلت للفرد حرية شبه مطلقة يصول ويجول حيث شاء في هذه المواقع دون حدود أو ضوابط ودون رقيب أو حسيب! ولقد أثر ذلك كثيرا على الأسرة وتماسكها: فتدنت الثقة بين الأزواج، بسبب كثرة الأصدقاء في هذا العالم الافتراضي وكثرة التواصل والمراسلات بين الأجانب وأدى ذلك أن ظهرت الخيانات الزوجية من كلا الطرفين. و زادت نسب الطلاق، وتفكك الأسر، دق ناقوس الخطر منذرا بكارثة إن لم يتدارك الأمر.
إن كثيراً من قضايا الطلاق في المحاكم الشرعية كان سببها علاقات محرمة نسجها أحد الزوجين مع شخص آخر، سواء الزوجة مع شاب تعرفت عليه عبر وسائل التواصل أو الزوج بعلاقات محرمة مع فتيات أجنبيات. ولقد أثرت هذه على استقرار الأسرة والزواج من بدايته، وقد سجلت حالات من الطلاق بعد مدة قصيرة من عقد القران السبب الحقيقي خلفها أن الفتاة قد تعرفت على شاب عبر وسائل التواصل جعلتها تعزف عن زوجها لترتبط بهذا الشاب.
وحصلت حوادث عكسية؛ ترك الشاب زوجته بعد فترة وجيزة من عقد قرانه لأنه أعجب بفتاة أخرى عبر المراسلات الإلكترونية.
ولا شك أن أثر هذه الحوادث لا يقف عند الزوجين بل يمتد الأثر للقطيعة بين أسرتيهما. كما ظهرت بعض حوادث الاستغلال التي تتعرض لها بعض الفتيات والزوجات بجهل منهن، إذ إن بعض الفتيات لا يتورعن أن ينشرن أي شيء عن حياتهن الخاصة عبر تلك الوسائل ( صور، فيديو، مراسلات خاصة بصور فاضحة) حتى وقعن فريسة سهلة في شباك ذئاب من البشر استغلوا ذلك في استدراجهن لما لا تحمد عقباه، وهناك إحصائيات مخيفة باستخدام هذه الوسائل للاستغلال الجنسي والمالي؛ حيث أكدت دراسة حديثة أن أكثر من ٣٥ ٪ (ممن شملتهن الدراسة) قد تعرضن لتحرش على مواقع التواصل إما بالكلام أو الصور أو مقاطع الفيديو. (عن موقع شبكة سما الإخبارية). وأكثر من يتعرض لذلك الاستغلال النساء ثم الأطفال.
إن الأثر السلبي الذي تحدثه هذه الوسائل على الأسرة يجعل كل غيور يسعى لوقف هذا الانحدار في سوء استخدامها، هذه الوسائل التي كان الأصل فيها أن تكون نعمة، لا سببا في كوارث تحل بالأسرة تساهم في تفككها وانهيارها، لا قدر الله.
وإذا أردنا أن نحافظ على أسرنا وتماسكها ونقيها شر شياطين الإنس لا بد من أن نتبع منهج الله في الضوابط التي وضعها في العلاقات بين البشر، ولا بد أن تتكاثف الجهود في التوعية وسبل الوقاية، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة.
وهذه بعض النقاط المهمة التي أحببت أن أنوه لها للمساهمة في التوعية والحد من سوء استخدام تلك الوسائل:
أولا : تحقيق الوازع الديني بتقوى الله ومراقبته في السر والعلن، وهذا أهم ضابط وأهم درع يحمي به الفرد نفسه وأسرته. وليتذكر كل فرد منا قول الله :” وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَیۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِیدِ ١٦ إِذۡ یَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّیَانِ عَنِ ٱلۡیَمِینِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِیدࣱ ١٧ مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدࣱ ١٨” [ق:16-18]
إن كل ما يصدر من أقوال وأفعال مسجل سيعرض على المرء يوم القيامة، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة، وإن من أعظم الذنوب عند الله هو التعرض للأعراض والتجرؤ على الحرمات.
ولا بد من خطوات عملية لتدعيم هذا الجانب وذلك بالابتعاد عن كل ما من شأنه أن يفضي إلى ما حرم الله
إن من منهج الإسلام في التشريع أن يأمر بالفضيلة وييسر للمكلف كل السبل لتحقيقها، وينهى عن الرذيلة ويجفف كل مواردها. وعلى ذلك لا يعقل أن يتعرض المرء بنفسه لموارد الفتن ثم يرجو السلامة بعدها مبررا لنفسه أن عنده وازع من دين سيحجبه،! بل عليه أولا أن يحجب موارد الفتن عن نفسه ثم يرجو السلامة بعدها. والبيئة لها أثر كبير على السلوك، والتعرض للفتن مدعاة للانزلاق فيها. وتأسيسا على ذلك، يجب ما يلي:
■ تجنب المواقع (الإباحية) والمشبوهة والفاسدة على شبكة الإنترنت،
■ تجنب التواصل مع من لا تعرفه وهذا لكلا الجنسين وبالأخص الإناث.
■ تجنب الخلوة الإلكترونية ( المراسلات الخاصة بين الجنسين إلا بضوابط)، وقد قال ﷺ: (لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ) رواه البخاري ومسلم
■ ومن ذلك تجنب العزلة عن أفراد البيت عند استخدام النت، والمراسلات، لأن العزلة مدخل الشيطان، وما دام المرء يجلس مع أهله وهو يتصفح المواقع سيكون ذلك حاجزا ومعينا إلا ينزلق في ما هو سيئ.
ثانياً :توجيهات خاصة بالمرأة.
إن المرأة أكثر من يتضرر من سوء استخدام هذه الوسائل، ولا شك أن أثر انزلاق المرأة في الفساد على الأسرة والبيت أكبر من غيرها، خاصة إن كانت زوجة أو أماً، فهي نصف المجتمع وعلى يديها يتربى النصف الاخر. وأهم ما يجب أن تلتزم به المرأة : توجيهات سورة النور والأحزاب وهذه أهم الضوابط التي أشارت إليها:
●الضابط الأول : ضابط الحديث مع الأجانب، وقد بينه قوله سبحانه:” فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَیَطۡمَعَ ٱلَّذِی فِی قَلۡبِهِۦ مَرَضࣱ وَقُلۡنَ قَوۡلࣰا مَّعۡرُوفࣰا” [الأحزاب:32] وأزعم أن أغلب المصائب التي جرت على النساء من مواقع التواصل كان ابتداؤها ( الخضوع بالقول)، والتبسط في الكلام فيما لا ينبغي الحديث فيه، كالحديث في الأسرار والخصوصيات، وما لا ينبغي أن يكون الكلام فيه إلا بين زوجين، ومن ذلك الحديث بأحاديث الحب والغرام والشوق والهيام، كل ذلك من الخضوع بالقول المحرم. ومن الخضوع بالقول ( الميوعة أثناء الكلام) والغناء،والكلام الفاحش والبذيء.
نعم أجاز الفقهاء حديث الرجل مع المرأة (الأجنبية) لكن للحاجة، وبقدر، (كالبيع والشراء والتطبيب، والتعلم ، والاستفتاء، الخ) ويجوز المراسلة بينهما بناء على ذلك ما أُمنت الفتنة. وقد كانت نساء الصحابة يكلمن النبي ﷺ ويحادثنه ويحادثن غيره من الصحابة،. كل ذلك مقيد بضابط الحاجة الشرعية.
الضابط الثاني :
●”وَقَرۡنَ فِی بُیُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ” [الأحزاب: 33] قال ابن كثير : في معنى (وقرن في بيوتكن): فلا تخرجن لغير حاجة وهذا ضابط مهم للمرأة الأولى تحقيقه على مواقع التواصل، فلا تظهر عليها ولا تستخدمها لغير حاجة وفي ذات السياق عليها أن تتجنب نشر صورها وخصوصياتها وأسرارها أو أسرار بيتها: كثير من النساء تنشر للناس أحداث حياتها اليومية بالتفصيل: فطورها غداءها نزهتها فرحها سرورها ،.الخ ( كأنما هي في بث مباشر) شغلها الشاغل التصوير و( الشير والكومنت، الخ) ، وهذا باب واسع للفتنة، والأصل ألا تنشر أو تراسل إلا لحاجة امتثالا لهذا التوجيه الكريم ( وقرن في بيوتكن) ويحرم عليها أن تصور نفسها وهي تغني وترقص وتتثنى، أو أن تصور نفسها بزينتها أو بملابس فاضحة امتثالا لقول الله تعالى:” وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ” [الأحزاب:33] وقوله في آية أخرى “ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين” [الأحزاب: 59] وقوله في سورة النور:” وَلَا یُبۡدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَاۤىِٕهِنَّ،. الآية) [النور:31]. وقد قال ﷺ : إذا استعطرتِ المرأةُ فمرَّت على القومِ لِيجِدوا ريحَها فهي زانيةٌ. أخرجه أحمد (١٩٧٢٦) • وصححه الألباني.
إذا كان مجرد رائحة الطيب والعطر تمر به على رجال أجانب أدخلها دائرة ( الزنا) بمعنى أنها تسببت لهم في زنا النظر وزنا القلب، فكيف بمن تعرض مفاتنها عبر مواقع التواصل أو الإنترنت،. أمام آلاف الناس بل ملايين البشر، كيف تراها تسلم .؟!
كم من فتاة استُغلت صورها أو مقاطع الفيديو التي تنشرها استغلالا سيئا أدى إلى حالات ابتزاز أو تشويه أو اعتداء على أعراض أو وقوع في الفاحشة ،
خلاصة الأمر أن هذه التوجيهات الربانية للمرأة هي تحصين لها ولبيتها، لذلك كان التعقيب الإلهي على هذه الأوامر بأجمل تعقيب: (إِنَّمَا یُرِیدُ ٱللَّهُ لِیُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَیۡتِ وَیُطَهِّرَكُمۡ تَطۡهِیرࣰا) [الأحزاب:33] أنه ضمان رباني لنقاء البيت الذي يطبق هذه التوجيهات ويمتثل أمر الله وأمر رسوله في ذلك وطهارته.
ثالثاً : واجب الرجل:
ما ذكرناه بخصوص المرأة في ضابط الكلام والمراسلات ينسحب على الرجل أيضا، وإن كان الأمر في حق المرأة أوجب، وعليه أيضا امتثال أمر الله بغض البصر ( قُل لِّلۡمُؤۡمِنِینَ یَغُضُّوا۟ مِنۡ أَبۡصَـٰرِهِمۡ)[النور:30]، وينبغي عليه أن يبتعد عن كل ما يثير الشهوات والغرائز والشبهات على مواقع التواصل. يحذر من (الانفتاح) بالصداقة و( التعارف) مع الفتيات والنساء وخاصة من يظهرن عدم الالتزام. كثير من المآسي حصل بسبب ذلك، تدمير أسر حصل بسبب مراهقة الزوج وطيشه. حالات كثيرة من الطلاق بسبب اكتشاف الزوجة صور فتيات ومحادثات مخلة على جوال زوجها، ويجب التنبيه في هذا السياق أنه يحرم التجسس وتتبع العورات، أو كشفها أو فضحها كما لا يجوز أن ينشر أسرار بيته أو زوجته حتى لو كان على خلاف معها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:” إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وتُفْضِي إِلَيْهِ، ثم يَنْشُرُ سِرَّهَا”. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
توجيهات أخرى مهمة للأسرة :
ضبط استخدام النت والدخول إلى المواقع زمانا ومكانا لأفراد الأسرة وضبط استخدام الجوال، من ذلك:
- إزالة كلمات المرور على الأجهزة بين الزوجين، تدعيما للثقة. وكذلك على الوالدين أن يلزما اولادهم بإزالة كلمات المرور عن جوالاتهم، لتحقيق الرقابة، ولا بد أن يفهم الأولاد أنها في سياق طبيعي، وفي سياق الوقاية، وما دام لن يرتكب خطأ فلا حاجة لكلمة المرور بين الأهل أو لا حاجة لحجبها عنهم.
- تحديد وقت لاستخدام الجوال ( ساعة أو ساعتان) مثلا ولا يترك الأمر مفتوحا، فلا ينبغي أن يترك الجوال بين يدي الاولاد وخاصة الأطفال ليقضوا معه ساعات طوال! ولا ينبغي أن يختلي الولد بجواله ما أمكن ذلك.
واجب الدولة:
تأمين بيئة نقية آمنة للأسرة عبر الفضاء الإلكتروني ويكون ذلك بما يلي:
- حجب المواقع الإباحية واللاأخلاقية، ومواقع الافكار المنحرفة والهدامة، وإلزام مزودي الخدمة وشركات الاتصال بحجبها، ومعاقبة من لا يلتزم.
- سن قوانين رادعة للابتزاز والاستغلال، والتجسس على الخصوصيات.
- بث الوعي المنهجي عبر وسائل الإعلام المسموعة والمشاهدة والمقروءة، وعبر المناهج الدراسية والجامعية وعبر المساجد بضوابط التعامل مع وسائل التواصل، وما هو المباح وما هو المحرم وما هو المسموح وما هو المجرَّم.
أخيرا نحتاج العون من الله في بداية الأمر ونهايته حتى يسلمنا وأسرنا ومجتمعاتنا من شر الفتن
فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين
سائلا المولى أن يكون خالصا لوجهه وأن ينفع به
تصنيفات : قضايا و مقالات