الاعتذار فضيلة ولكن…
من المتفق عليه أن الاعتذار ليس شيئاً واحداً، وهذا يعني أن الحكم عليه ليس حكماً واحدا أيضاً، والمعتذر ليس شجاعاً في كل الأحوال وربما كان جباناً في بعضها، ولقد عرف الناس الاعتذار وقالوا فيه نثرا وشعرا ومارسوه في حياتهم حتى صارت الاعتذاريات نمطا سائدا بغض النظر عن بواعثه وشكله. فثمة بواعث إيجابية وأخرى سلبية تتباين أحياناً وتتداخل أحياناً أخرى حتى يصبح الفصل صعباً إلا على من فتح الله له باب فراسة ونباهة.
ومن المناسب أن نقف قليلا عند فكرة الاعتذار في محاولة لاستجلاء وجوهها حتى لا نقع ضحية الحكم النمطي السريع، أما الوجه الأول فهو اعتذار المضطر أو اعتذار المنافق أو اعتذار الكاذب، ويدل هذا الاعتذار على نفس خبيثة لم ترضخ للحق، ولكن حاولت الالتفاف عليه تهربا من استحقاق لازم أو سعيا لمصلحة مبنية عليه، وقد تكون المصلحة مادية أو معنوية، والثانية هي الأخطر لأن المعتذر يحاول تسويق نفسه ورفع مقامه، واعتذاره أقرب لمشهد تمثيلي متقن، وأعتقد أن تسويق بضاعة هذا الوجه من الاعتذار ليس إلا تسويقا مكشوفا يقوم به مشبوهون أو بسطاء من حيث لا يدرون ومن المهم متابعة هذا الوجه وفضحه وكشف زيفه وحماية العقول منه.
وأما الوجه الثاني فهو اعتذار من رجع إلى الحق، والمعتذر في هذه الحالة قوي عزيز واثق من قدراته متصالح مع نفسه وهو صادق في اعتذاره مصر عليه مهما كانت النتائج وبغض النظر عن قيمة الشخص المعتذر له أو مقامه، لأن في الاعتذار شية من توبة بعد خطأ، ولا يدور في ذهن المعتذر القوي حين يعتذر أية مصلحة أو مكاسب، فإن تحقق شيء من ذلك فبفضل من الله عز وجل وكرمه، ولا يخدش هذا الخير فضيلة الاعتذار ولا ينقص قدرها.
أما الوجه الثالث فهو الاعتذار المضمر وهذا وجه يبعث على الأسف والأسى، فقد يدرك الإنسان أنه أخطأ وأن الاعتذار قد لزمه فتلومه نفسه ويعذبه ضميره ويشعر برغبة شديدة في الاعتذار، ولكنه لا يفعل لأنه ما زال يرى أن الاعتذار انكسار وأن المعتذر يهين نفسه، وتلك مكابرة من تلبيس الشيطان تمنع صاحبها من الخطوة الأخيرة الحاسمة، فهو بين اعتذار يعرف وجوبه ومقام من وهم يحرص عليه.
وحتى لا نثير ضبابا كثيفا في سماء النص أقول إن هذا المكابر جبان مهزوز، ولو كان قويا لما تردد في الاعتذار، وعلى الرغم من تداخل هذه الوجوه وارتباطها الوثيق بالنيات يظل الاعتذار قيمة كبيرة وشيمة عالية وفضيلة مقدرة ولغة محترمة بين الناس وفي التاريخ المكتوب والمسموع ما يغني عن سرد النماذج.
تصنيفات : قضايا و مقالات