#وقفات تربوية
فبراير 23, 2022
للمشاركة :

تحتل الآخرة في التصور الإسلامي مكانة لا تضاهيها سواها، وتأتي بعد الإيمان بالله في المكانة التالية، ولا تكاد تجد صفحة في كتاب الله عز وجل إلا وهي تذكرك بالله واليوم الآخر، وكان من أبرز آثار هذا الغرس الإيماني المتجذر في القلوب ثمرة خلق العطاء، إذ يرى المعطي نفسه رابحاً أكثر من المعطى له. لذلك كان أهل الآخرة ( من يعيش منهم في سبيل الله، ومن يموت في سبيلها) كانوا أعظم الناس نفعاً للدنيا، ذلك أنهم يسحبون من رصيد الآخرة ولا يأخذون من رصيد الدنيا[1]. إنهم يعطون الناس ( الوقت والمال والجهد والنفع والروح) دون أن يطلبوا من الدنيا مقابلا أو عوضا- حتى لو كان هذا العوض معنويا- :” إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا” [ الإنسان:]. وإذا كان علماء الإدارة والتنمية البشرية يجمعون على أن ثقافة ( اربح/ اربح) التي تؤدي إلى ربح الجميع هي الكفيلة بإسعاد الجميع بدلا عن التنافس على قواعد ( اربح/ اخسر) أو ( اخسر/ اخسر)[2]، فإن التربية الإيمانية حسمت الأمر ببساطة، ولقد كان شعار الرسل – عليهم الصلاة والسلام- الدائم:” ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله” [هود:29]. وكان من عجيب التفاعل الصحابي مع هذه المعاني، هو ذلك الحس المرهف، والحساسية العجيبة تجاه طلب العوض كاملا من رصيد الآخرة دون أدنى مقابل في الدنيا، “فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فقال: «اقسميها» قال: وكانت عائشة إذا رجعت الخادم قالت: ما قالوا لك؟ تقول ما يقولون يقول: بارك الله فيكم فتقول عائشة: وفيهم بارك الله، ترد عليهم مثل ما قالوا ويبقى أجرنا لنا”[3]. حتى مجرد الدعاء لا تريده أم المؤمنين عوضا مقابل العطاء، فتدعو للمتصدق عليه بمثل ما دعا لها ليخلص لها الأجر كاملا يوم القيامة. إنه العطاء الذي يعمر الدنيا ويسعد الإنسان. فن في العطاء.. يضحك منه الله سبحانه ومع البخاري في صحيحه – من جديد-يحدثنا عن مناقب الأنصار:” عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضم أو يضيف هذا»، فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ضحك الله الليلة، أو عجب، من فعالكما» فأنزل الله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]” [4]. وحسبك أن يعجب الله سبحانه أو يضحك- كما يليق بجلاله- من صنيع أسرة من عباده، تبيت مع أطفالها جياعا تطعم بعشائهم ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكي لا تحرجه تموّه عليه أنها تأكل معه!!! ألا إنه العطاء العجيب الذي يليق ببيت من بيوت الأنصار. ربح البيع أبا الدحداح وفي حادثة أخرى، يطلب النبي صلى الله عليه وسلم من رجل أن يبيع جاره نخلة له كي يتمكن من بناء جدار بستانه الذي كانت تعاديه النخلة، فأبى، فوعده بأن له في الجنة مثلها إن هو أعطاها لجاره لكنه يصر على الإباء[5]!!! فيسمع بالصفقة الأنصاري أبو الدحداح فيذهب لصاحب النخلة فيعرض عليه ثمنها بستانه الذي يحوي (600) نخلة، فيقبل، وتتم الصفقة.. لكن صفقةً أخرى كانت تعقد في السماء!! يأتي أبو الدحداح النبي صلى الله عليه وسلم فيعطيه تلك النخلة ليعطيها لصاحب البستان، فيتهلل وجه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقول: “كم لأبي الدحداح من عذق رداح في الجنة”[6]. ويذهب أبو الدحداح يخبر زوجته في البستان الخبر، فتتلقاه بالاستبشار قائلة: ربح البيع أبا الدحداح.[7] وإن المرء ليحار بأيهما يعجب: بصنيع أبي الدحداح، أم باستبشار أم الدحداح؟ ثم سرعان ما يزول العجب عندما نتذكر أننا نتحدث عن الظاهرة الأنصارية، عن مدرسة العطاء الفريدة. وبعد فيا شباب الإسلام، ها نحن على بعد (1400) سنة من قصة أبي الدحداح، ونسأل أنفسنا اليوم: يا ترى من الذي ربح: أبو الدحداح الذي أعطى، أم الرجل الذي بخل؟؟!! ” فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى” [الليل:5-7 ] ” ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه” [محمد:38 ].

________

[1] عن الدكتور عبد الكريم بكار بتصرف

[2] ينظر- على سبيل المثال-: ستيف آر كوفي، العادات السبع للناس الأكثر فعالية (288 وما بعدها)

[3] النسائي، السنن الكبرى ( 9/121) (10062)،

[4] البخاري ( 5/34) (3798). هذا ولا مانع عند بعض أهل العلم أن يتعدد سبب النزول، وأحيانا يكون المقصود: الاستشهاد بالآية في موطن مشابه، لا أنها نزلت أكثر من مرة. إذ مر معنا من قبل أن الآية نزلت في غنائم بني النضير. [5] وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يندبه ولا يأمره، لأن النخلة حقه. ورغم وعده مقابل هذا العطاء اليسير بأن مقابله الجنة إلا إنه أبى!!!

[6] أي نخل أو أغصان ثقيلة بالثمر.

[7] لتفاصيل القصة التي يرويها الإمام أحمد بسند صحيح على شرط مسلم، ينظر: مسند أحمد (19/465)(12482)

تصنيفات :