في يومها العالمي
اللغة العربية … لغة دين عظيم … وهوية عريقة … وثقافة سامية
د. فادي صقر عصيدة
دكتوراه في اللغة العربية وآدابها
يصادف يوم الثامن عشر من شهر كانون الأول اليوم العالمي للغة العربية إذ تعود أصوله إلى عام 1973م، يوم أصدرت الأمم المتحدة قرارا بجعل اللغة العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة، ثم أقرته منظمة اليونسكو يوما عالميا للغة العربية، تقام فيه الندوات واللقاءات في كل محفل يعنى باللغة العربية وروادها، ذلك أن اللغة العربية لغة عريقة يمتد تاريخها حسب أدق التواريخ إلى ثمانية عشر قرنا من الزمان، ويتكلم بها اليوم ما يقارب نصف مليار إنسان موزعين على بلدان العالم كله، فكانت لغة الإسلام والدين الجديد حوت آياته، وجاء أعظم كتاب بحروفها وصياغتها، فسادت يوم ساد أهلها فكانت لغة العلوم والمعارف لسنوات طوال، وشكلت اللغة العربية بمفرداتها وكلماتها هوية أهلها وأصحابها، وكانت جزءا أصيلا من شخصية ناطقيها وكونت ثقافتهم وحوت تراثهم ومجدهم، لذا فالتمسك بها والحديث بأحرفها وأصواتها ركن أصيل لا غنى عنه، ولتعد الأمة حينها لمجدها وعزها وتعود اللغة العربية للمكانة التي تستحقها ويجب أن تكون فيها.
إن فهم اللغة العربية والإحاطة بحروفها وأصواتها هو ركن أصيل من الدين الإسلامي؛ ذلك أننا لا نستطيع إدراك مقاصد الشريعة، ولا فهم أحكام القرآن الكريم، أو مراد السنة النبوية دون أن نعرف اللغة العربية التي جاء بها هذا الدين، وليس أدل على ذلك من حديث الرسول عليه السلام حيث لحن أحدهم بحضرته فقال لأصحابه: “أرشدوا أخاكم فقد ضل” (رواه الحاكم) فقد جعل عليه السلام الخطأ في اللغة ضلالا. وهذا ابن الخطاب عمر رضي الله عنه يقول:” تفقهوا في السنة، وتفقهوا العربية، وأعربوا القرآن فهو عربي”، وهذا الإمام الشاطبي يقرن بين علمين أساسيين هما: علم اللغة العربية وعلم الشريعة، فقال: “إن الشريعة عربية وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم العربية حق الفهم”.
لا تقتصر علاقة العربية بالدين الإسلامي فقط على نزول القرآن بها، ومجيء السنة بلسانها بل تتعداه إلى أبعد من ذلك فهناك عشرات العلوم التي اقترنت بها واحتاجت إليها مثل علوم القرآن وعلوم السنة النبوية وعلوم الفقه والاجتهاد؛ فأول شروط الفقيه المجتهد هو معرفة اللغة العربية، وإتقانها، وكذلك ارتبط علم الدعوة لله باللغة العربية ذلك أن سلامة الخطابة والإلقاء مرتبط بفهم اللغة، ومعرفة قواعدها وأصولها، فما أجمل العربية يوم تعلو بها الخطب، وتصدح بها الخناجر داعية لرب العالمين.
وإذا انتقلنا من علاقة اللغة العربية بالدين الاسلامي فإننا نجد اللغة تساهم بدرجة كبيرة في تشكل الإنسان وشخصيته؛ فاللغة وعاء الفكر ومقياس الهوية والانتماء، وبها توثق الأمة مجدها وإنجازاتها، لتجعلها خالدة عبر القرون، وما المؤلفات العظيمة التي تملأ مكتباتنا العربية إلا خير دليل على هوية الأمة العربية الإسلامية في تاريخها العريق ومجدها التليد؛ فهذه اللغة كانت الوعاء الثقافي الذي حوى العادات العليا، والقيم السامية، لأمة كانت – وما زالت – خير الأمم، فألفت في مختلف العلوم طبيعها واجتماعيها كتبا كانت خير مثال على تراث العرب وهويتهم، فاستوعبت علوم غيرهم من فرس وروم وترك وترجمتها للغة العربية.
إن الحفاظ على اللغة العربية حية فعالة هو المعلم الأبرز في تحديد الهوية الثقافية والاجتماعية للعرب، وبخاصة في عالم اليوم الذي يشهد صراعا محموما على تحديد الهويات، ورسم ملامح الشخصية المستقلة، فمن يملك اللغة يملك الهوية الفعلية والروحية، ذلك أن اللغة العربية بجمالها وأساليبها قد تجاوزت كونها لغة تواصل واتصال إلى أن أصبحت لغة جامعة معبرة عن التراث العربي الإسلامي ناقلة للهوية العربية وللشخصية الفريدة التي تمتاز بها.
وأخيرا في يوم العربية العالمي لنعد إلى لغتنا الغراء، ففيها نجد الفكرة السليمة والحضارة التليدة والمعاني السامية، كيف لا وهي من حوت القرآن الكريم، وتشرفت بأن تكون أساليبها الرقيقة، ومعانيها الرفيعة البلاغية هي الوسيلة الأولى لفهم مغزى الآيات والسور، وما أجمل هذه اللغة يوم تحدثت عن نفسها فقالت:
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
,
تصنيفات : قضايا و مقالات