وقفة بلاغية مع آية، د. موسى علي نجادي
يناير 9, 2023
للمشاركة :
قال تعالى: ” حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَوْاْ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ” (النمل: 18)
   نملة صغيرة في حجمها، عظيمة في قولها، تكلمت بكلمات معدودة مليئة بالدرر الكامنة، التي لا يمل صاحب عقل من تأملها وتدبرها.
   فكـأني بسليمان –عليه السلام- يقود جيشاً عظيماً، لا ينقصه التنظيم، ولا يعيبه التدبير، كل فرد فيه قد عرف ما أنيط به، جيش لم يُر مثله قط،وَحُشِرَ لِسُلَيْمَٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ وَٱلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ” [النمل:17]، فهذا الجيش على عظمة أجناس جنوده واختلافها إلا أنه يأتمر بأمر قائده، ويسير وفق تعليماته.
   وكأني بالنملة كانت على شرف عالٍ، فهالها ما شاهدت، وأدركت هلاك قومها، فنادتهم بصوتٍ مرتجف! ” يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَٰكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
   وأي خطابٍ أبلغ من خطابها؟ نادت (يا) ونبهت (أيها) وسمت (النمل) وأمرت (ادخلوا) ونصّت (مساكنكم) ونهت (لا يحطمنكم) وخصّت (سليمان) وعمّت (وجنوده) واعتذرت (وهم لا يشعرون) فأي بلاغة بعد هذا؟ خطاب جليل موجز يزخر بالدلالات والدروس.
   وأول تلك الدروس، ألّا نستقل الجهد الفردي، فلو استقلت النملة جهدها لهلك قومها، وكم نحن اليوم بحاجةٍ إلى تعميق هذا المفهوم في أنفسنا، وغرسه في نفوس أبنائنا، فربما كان ذلك سبباً في إحياء الأمة، وإعادتها إلى جادة الصواب. ولنا في رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) خير أسوة، إذ بدأ الدعوة وحيداً، وإبراهيم (عليه السلام) يحطم الأصنام ويحاجج قومه فيبكّتهم، وكم من فرد أحيا الله به أمة؟
  أما الدرس الثاني، فماذا يحدث لو أن النملة فضلت النجاة بنفسها وتركت قومها؟ تلك النملة الحكيمة حُقّ لها أن يخلد ذكرها في أعظم كتاب؛ فهي التي فضلت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، هي التي عرّضت نفسها للخطر لتنذر قومها، وربما كانت الأقرب لأقدام الجيش.
     فما أحوجنا اليوم إلى من يضحي بمصلحته الشخصية من أجل مصلحة الأمة! وما أقبح عشق الأنانية وحب الذات! ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل الذي آثر العذاب والسجن على أن يُقرّ بالباطل ولو من باب التقية، وقال: “إنّ العالم إن تكلم تقية والجاهل يجهل، متى يعرف الجاهل؟”، فما أحوجنا أن نعلم أبناءنا أنّ المصلحة العامة أولى من المصلحة الشخصية، نعم نحتاج إلى غرس بذور العلاج واجتثاث الفساد في نفوس أبنائنا، ليقدموا مصلحة الأمة والوطن على مصالحهم الذاتية.
   والدرس الثالث الذي نتعلمه من النملة، أن نقدر الجهد ولا ننظر إلى النتائج، فلو نظرت النملة إلى النتائج، ربما خالطها اليأس، فمن يضمن وصول صوتها أو طاعة قومها؟، فنوح عليه السلام أفنى عمره في دعوة قومه ” وما آمن معه إلا قليل” [هود:40]، فسنة الله تقتضي أن نعمل ونجد ونترك النتائج على الله.
   والدرس الرابع الذي نتعلمه من النملة، أنها لم تكتف بالصراخ والنداء، بل قدمت الحل العلمي المناسب “ادخلوا مساكنكم”، وكم من متباك على حال الأمة دون أن يقدم الحل المناسب. نعم لدقّ ناقوس الخطر لكن مع تقديم الحلول العملية المناسبة، فدخول المساكن هو الحل الأمثل بالنسبة للنمل؛ إذ لم تعد هناك أية فرصة أمامهم للهروب إلى مكان آخر، وهل هناك مكان يشعر فيه المرء بالسكينة والطمأنينة أكثر من المسكن؟
    وما أسهل أن تقف واعظاً ساخطاً مع الأوضاع!، لكن أين من يقدم الحلول العملية لتحسين الأوضاع، منطلقا في ذلك من الحلول الإيمانية؟.
   والدرس الأخير الذي نستشفه من قول النملة، حسن الظن بالآخر، فالنملة تحسن الظن بسليمان وجنود ” لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ”، فما أجمل هذا الاعتذار! وما أجمل حسن الظن بالآخر! وما أحوجنا إلى حسن الظن والتماس الأعذار لبعضنا البعض، ورحم الله الفاروق إذ يقول: “لا تظنّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً”، فكم في هذا القول من صلاح لباطن النفس، وصلاح للأجيال.
وليت شعري، كيف لو رأت النملة الذين يحطمون الناس وهم يشعرون؟
والله أسأل التوفيق والسداد لعباده الصالحين.

تصنيفات :